العدد : ١٧٠٧٨ - الأربعاء ٢٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٧٨ - الأربعاء ٢٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عن ألماني ليس غنيا بل «غبيا»

عندما‭ ‬كنت‭ ‬مقيما‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬في‭ ‬تسعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬سعدت‭ ‬باستقبال‭ ‬واستضافة‭ ‬زميل‭ ‬دراسة‭ ‬جاء‭ ‬المدينة‭ ‬زائرا‭ ‬سائحا،‭ ‬في‭ ‬بيتي،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬دخل‭ ‬مجال‭ ‬التجارة‭ ‬وحقق‭ ‬فيه‭ ‬نجاحا‭ ‬طيبا،‭ ‬وعندما‭ ‬هم‭ ‬بالمغادرة‭ ‬سألني‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬ممكنا‭ ‬أن‭ ‬أصحبه‭ ‬في‭ ‬زيارة‭ ‬لـ«هارودز‮»‬،‭ ‬فقلت‭ ‬له‭: ‬لا‭ ‬مانع‭ ‬ولكن‭ ‬اخطرني‭ ‬بموعد‭ ‬الزيارة‭ ‬قبل‭ ‬وقت‭ ‬كاف،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يتعارض‭ ‬مع‭ ‬جدول‭ ‬عملي،‭ ‬ثم‭ ‬سألته‭: ‬كم‭ ‬المسافة‭ ‬من‭ ‬لندن‭ ‬إلى‭ ‬هارودز؟‭ ‬فكان‭ ‬ردُّه‭ ‬أن‭ ‬سؤالي‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬غريب‮»‬‭. ‬المهم‭ ‬اتضح‭ ‬له‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬أحسب‭ ‬أن‭ ‬هارودز‭ ‬مدينة‭ ‬‮«‬بحالها‮»‬،‭ ‬وشرح‭ ‬لي‭ ‬أنها‭ ‬متجر‭ ‬ضخم‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬لندن،‭ ‬معروف‭ ‬بعرض‭ ‬سلع‭ ‬‮«‬على‭ ‬مستوى‮»‬،‭ ‬وذهبت‭ ‬معه‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬المتجر،‭ ‬ورأيت‭ ‬قرب‭ ‬المدخل‭ ‬قلم‭ ‬رصاص‭ ‬سعره‭ ‬8‭ ‬جنيهات‭ ‬إسترلينيه،‭ ‬وقلت‭ ‬في‭ ‬سري‭: ‬وكم‭ ‬يكون‭ ‬سعر‭ ‬المسدس‭ ‬هنا؟‭ ‬وخرجت‭ ‬من‭ ‬المتجر‭ ‬ولم‭ ‬أعد‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭.‬

كتبت‭ ‬كثيرا‭ ‬عن‭ ‬الإنفاق‭ ‬البذخي‭ ‬على‭ ‬الأثاث‭ ‬والملابس،‭ ‬مستنكرا‭ ‬بصفة‭ ‬خاصة‭ ‬ان‭ ‬ينفق‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬حيلة‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬سوى‭ ‬الراتب‭ ‬الشهري،‭ ‬ما‭ ‬يعادل‭ ‬راتب‭ ‬شهر‭ ‬كامل‭ ‬على‭ ‬بلوزة‭ ‬أو‭ ‬جاكيت‭. ‬الغريب‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬أن‭ ‬الأغنياء‭ ‬غير‭ ‬ميالين‭ ‬للإنفاق‭ ‬التفاخري،‭ ‬ربما‭ ‬لأن‭ ‬عيونهم‭ ‬‮«‬مليانة‮»‬،‭ ‬وربما‭ ‬لأنهم‭ ‬يعرفون‭ ‬قيمة‭ ‬المال‭ ‬لأنهم‭ ‬‭ ‬أو‭ ‬معظمهم‭ ‬‭ ‬عانى‭ ‬كثيرا‭ ‬حتى‭ ‬جمع‭ ‬ثروته،‭ ‬وخير‭ ‬مثال‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬الملياردير‭ ‬السعودي‭ ‬الراجحي،‭ ‬الذي‭ ‬لديه‭ ‬عشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬الموظفين،‭ ‬وكان‭ ‬يمر‭ ‬بشركاته‭ ‬فيحسبه‭ ‬الناس‭ ‬‮«‬طالب‭ ‬وظيفة‮»‬،‭ ‬لبساطة‭ ‬هندامه،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬شديد‭ ‬النفور‭ ‬من‭ ‬العنطزة‭ ‬والفخفخة،‭ ‬وكان‭ ‬أبعد‭ ‬الناس‭ ‬عن‭ ‬البخل‭ ‬بدليل‭ ‬أنه‭ ‬أوقف‭ ‬مليارات‭ ‬الدولارات‭ ‬لصالح‭ ‬المشاريع‭ ‬الخيرية،‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬شركات‭ ‬الدواجن‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭.‬

وما‭ ‬حملني‭ ‬على‭ ‬الخوض‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع،‭ ‬هو‭ ‬خبر‭ ‬قرأه‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭ ‬عن‭ ‬شركة‭ ‬نمساوية‭ ‬أنتجت‭ ‬بنطلونا‭ ‬واحدا‭ ‬وباعته‭. ‬البنطلون‭ ‬غير‭ ‬عادي،‭ ‬ومصنوع‭ ‬من‭ ‬جلود‭ ‬الأغنام‭ ‬والغزلان‭ ‬والخنازير‭. ‬وبالمناسبة‭ ‬فإن‭ ‬النفور‭ ‬من‭ ‬الخنزير‭ ‬أمر‭ ‬عام،‭ ‬ولا‭ ‬يقتصر‭ ‬علينا‭ ‬نحن‭ ‬كوننا‭ ‬نعتبره‭ ‬نجسا‭. ‬أقذع‭ ‬شتيمة‭ ‬توجه‭ ‬إليك‭ ‬بالإنجليزية،‭ ‬هي‭ ‬وصفك‭ ‬بأنك‭ ‬خنزير‭ ‬لأنها‭ ‬تعني‭ ‬قذر‭ ‬ونتن‭ ‬ونهم‭ ‬وشره‭ ‬ومعفِّن‮»‬‭. ‬هناك‭ ‬أمر‭ ‬آخر‭ ‬يميز‭ ‬هذا‭ ‬البنطلون‭ ‬وجعل‭ ‬شركة‭ ‬شهيرة‭ ‬تكتفي‭ ‬بإنتاج‭ ‬عينة‭/ ‬قطعة‭ ‬واحدة‭ ‬منه،‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬به‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬160‭ ‬قطعة‭ ‬ماس‭ (‬ألماظ‭) ‬مثبتة‭ ‬بقطع‭ ‬وخيوط‭ ‬ذهبية‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فليس‭ ‬مستغربا‭ ‬ان‭ ‬يكون‭ ‬سعر‭ ‬هذا‭ ‬البنطلون‭ ‬166‭ ‬ألف‭ ‬دولار‭.. ‬وتذكرت‭ ‬كيف‭ ‬أنني‭ ‬تباهيت‭ ‬بامتلاكي‭ ‬لـ14‭ ‬بدلة‭ ‬كاملة‭ (‬فُل‭ ‬سوت‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬تذكرت‭ ‬أن‭ ‬قيمتها‭ ‬مجتمعة‭ ‬كانت‭ ‬نحو‭ ‬خمسمائة‭ (‬500‭) ‬دولار،‭ ‬لأنني‭ ‬اشتريتها‭ ‬من‭ ‬بلد‭ ‬كانت‭ ‬الاشتراكية‭ ‬فيه‭ ‬لم‭ ‬تلفظ‭ ‬أنفاسها‭ ‬بعد‭ ‬بالكامل‭ (‬تشيكوسلوفاكيا‭). ‬ووجد‭ ‬البنطلون‭ ‬من‭ ‬يشتريه،‭ ‬وهو‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد‭ ‬ألماني‭ ‬يقيم‭ ‬في‭ ‬إمارة‭ ‬دبي‭.‬

لو‭ ‬كنت‭ ‬مقيما‭ ‬في‭ ‬دبي‭ ‬لتعلمت‭ ‬كذا‭ ‬جملة‭ ‬شتيمة‭ ‬بالألمانية،‭ ‬ثم‭ ‬بحثت‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الألماني‭ ‬لأطلقها‭ ‬في‭ ‬وجهه‭: ‬شيخن‭ ‬بيخن‭ ‬أخ‭ ‬توف‭ (‬بالمناسبة،‭ ‬هذه‭ ‬الجملة‭ ‬مفبركة‭ ‬ولكن‭ ‬عموما‭ ‬لا‭ ‬يمكنك‭ ‬ان‭ ‬تنطق‭ ‬بجملة‭ ‬بالألمانية‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬يتطاير‭ ‬اللعاب‭ ‬من‭ ‬فمك‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬من‭ ‬تخاطبه‭)‬،‭ ‬ليس‭ ‬ذلك‭ ‬لأنني‭ ‬‮«‬حاقد‮»‬‭ ‬لأنه‭ ‬أنفق‭ ‬على‭ ‬بنطلون‭ ‬واحد‭ ‬ما‭ ‬يعادل‭ ‬قيمة‭ ‬سيارتي‭ ‬وأثاث‭ ‬بيتي‭ ‬وملابس‭ ‬جميع‭ ‬أفراد‭ ‬أسرتي‭ ‬الممتدة‭ ‬منذ‭ ‬عهد‭ ‬كافور،‭ ‬ونظاراتي‭ ‬الـ11‭ (‬لا‭ ‬أتخلص‭ ‬من‭ ‬نظاراتي‭ ‬الطبية‭ ‬القديمة‭ ‬خوفا‭ ‬من‭ ‬الظروف‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تضطرني‭ ‬الى‭ ‬استخدام‭ ‬واحدة‭ ‬منهن‭ ‬قديمة‭. ‬ورغم‭ ‬هذا‭ ‬يقول‭ ‬طبيب‭ ‬العيون‭ ‬إنني‭ ‬أعاني‭ ‬من‭ ‬قصر‭ ‬النظر‭. ‬احتفاظي‭ ‬بالنظارات‭ ‬الأثرية‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬النظر‭.. ‬شوفوا‭ ‬حال‭ ‬السوق‭ ‬الآن‭ ‬وانظروا‭ ‬كيف‭ ‬صار‭ ‬سعر‭ ‬سندويتش‭ ‬الفول‭ ‬اليوم‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬سعر‭ ‬سندويتش‭ ‬الشاورما‭ ‬قبل‭ ‬سنة‭) ‬وأكرر‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬قلته‭ ‬عن‭ ‬وجود‭ ‬نقطة‭ ‬صغيرة‭ ‬تفصل‭ ‬بين‭ ‬الغني‭ ‬والغبي‭. ‬حركة‭ ‬كدا‭ ‬وللا‭ ‬كدا‭ ‬من‭ ‬إصبعك‭ ‬قد‭ ‬تجعل‭ ‬الغني‭ ‬‮«‬غبيا‮»‬‭! ‬والألماني‭ ‬هذا‭ ‬بالتأكيد‭ ‬ليس‭ ‬غنيا‭ ‬وإلا‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬وطنه،‭ ‬في‭ ‬دبي،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬ذو‭ ‬نزعات‭ ‬استعراضية‭. ‬إذن‭ ‬فإنني‭ ‬لا‭ ‬أظلمه‭ ‬لو‭ ‬وضعت‭ ‬النقطة‭ ‬‮«‬تحت‮»‬‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬‮«‬فوق‮»‬‭ ‬في‭ ‬الحرف‭ ‬الذي‭ ‬يلي‭ ‬الغين‭ ‬في‭ ‬‮«‬غني‮»‬‭.. ‬ولو‭ ‬كنت‭ ‬مقيما‭ ‬في‭ ‬دبي‭ ‬لتحرشت‭ ‬به‭ ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬النشالون‭ ‬وانتزعت‭ ‬كم‭ ‬فص‭ ‬ألماس‭ ‬من‭ ‬بنطلونه‭ ‬الخنزيري‭ ‬لأصبح‭ ‬غنيا‭ ‬بالنون‭ ‬وليس‭ ‬بالبون‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬سرحان‭ ‬عبدالبصير‭!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا