في العشرين من يناير 2025 سوف يتم تنصيب دونالد ترامب ليكون الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية، وعلى الرغم من أن للرئيس ترامب فترة رئاسية سابقة بما يعني درايته الكاملة بتطورات ملفات الأمن الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط إلا أن طبيعة المشهد الإقليمي الراهن لا تتيح للباحثين الكثير من التوقعات بما ستكون عليه ثوابت ومتغيرات ترامب، ولقد أشرت في مقال سابق عن توقعات دول الخليج العربي من الرئيس ترامب، إلا أن المشهد الإقليمي الراهن يؤكد وبما لا يدع مجالاً للشك ارتباط أمن منطقة الخليج العربي بالدائرة الإقليمية على نحو وثيق وليس أدل على ذلك من دور دول الخليج تجاه الملف السوري والتي كانت سباقة واتخذت شكلاً جماعياً عكس طبيعة ذلك الدور والرؤية الخليجية لمستقبل سوريا ومتطلبات التحول السياسي.
لقد دأب باحثو العلاقات الدولية والمهتمون بالسياسات الخارجية للولايات المتحدة على تفسير تلك السياسات ضمن محددات مختلفةـ فالبعض يرى أن تلك السياسات تؤسس على مزيج من القيم والمصالح، تزداد أو تنخفض مؤشرات إحداها وفقاً لتوجهات الإدارة الحاكمة عما إذا كانت من الجمهوريين أم من الديمقراطيين، والبعض الآخر يرى أن السياسات الخارجية الأمريكية تنطلق من مصالح حيوية محددة في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي وتتمثل في الحفاظ على توازن القوى الراهن والنفط والملاحة البحرية وهي خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها وإلا كان الرد هو تأسيس تحالفات عسكرية لمواجهة تهديدات تلك المصالح وكان منها التحالف الدولي لتحرير الكويت عام 1991 والغزو الأمريكي للعراق عام 2003 ثم تحالفات مواجهة تهديدات الأمن البحري بقيادة الولايات المتحدة أيضاً خلال الثمانينيات وعام 2019 ثم حارس الازدهار عام 2023، وهناك تيار ثالث من الباحثين يرى أن سياسة الولايات المتحدة تجاه منطقة الشرق الأوسط لا تنفصل عن مجمل الوضع العالمي وسعي القوى المناوئة لها لترسيخ نفوذها في مناطق للولايات المتحدة مصالح حيوية فيها وبالتالي تكون السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط – ازدهاراً أو انحساراً- وفقاً للتنافس العالمي في مناطق النفوذ تلك سواء الشرق الأوسط أو بحر الصين الجنوبي، وربما تكون التفسيرات الثلاثة صحيحة ولكن في تصوري أن تطورات المشهد الإقليمي هي التي سوف تحكم طبيعة ومسارات تلك السياسة إلى حد كبير بما يعيد تأكيد حقيقة مؤداها أن الأمن الإقليمي أيضاً يمكنه تشكيل الأمن العالمي، ومع الأخذ في الاعتبار أن سياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة تجاه منطقة الشرق الأوسط كانت تشهد تحولات دراماتيكية وأخرى حافظت على الوضع الراهن، ومع أهمية التريث لحين الاستماع إلى خطاب حالة الاتحاد الذي يتعين أن يلقيه ترامب في أعقاب أسابيع من تنصيبه ثم احتمال صدور استراتيجية للأمن القومي يحدد فيها ترامب أولويات الولايات المتحدة الأمريكية فإن هناك الكثير من الجدل حول الدور الأمريكي تجاه ملفات الأمن الإقليمي انطلاقاً من خمسة أمور أولها: تحدي الجماعات دون الدول للأمن الإقليمي وخاصة استخدامها التكنولوجيا الحديثة في مناطق الصراعات المختلفة حيث كانت السياسة التقليدية الأمريكية هي إما تصنيف تلك الجماعات كمنظمات إرهابية بما يترتب على ذلك من إجراءات تجفيف المنابع المالية لها أو من خلال تأسيس تحالفات عسكرية لمواجهتها، وبرغم من أهمية هاتين الآليتين فإن خطر تلك الجماعات لا يزال ماثلاً، وثانيها: التساؤلات حول كيفية تعامل الولايات المتحدة مع مخاطر البرامج النووية الإيرانية، وخاصة أن ترامب استخدم سياسة الضغوط القصوى تجاه إيران خلال فترة رئاسته الأولى من خلال الانسحاب من الاتفاق النووي وفرض سلسلة عقوبات اقتصادية أحادية على إيران ثم عملية اغتيال قاسم سليماني، وبوجه عام الملف النووي الإيراني متعدد الأبعاد ويرتبط أيضاً بالدور التفاوضي الذي تلعبه أوروبا، فضلاً عن مستقبل الدور الإقليمي لإيران عموماً على خلفية التطورات الإقليمية الأخيرة في كل من سوريا ولبنان وتأثيرها في ذلك الدور، وثالثها: تهديدات الملاحة البحرية في باب المندب والبحر الأحمر، والتساؤلات حول جدوى التحالفات البحرية لمواجهتها، فترامب هو من اقترح تأسيس التحالف العسكري البحري لأمن الملاحة في الخليج العربي في 2019 وضم ست دول فقط من بينها ثلاث دول خليجية ثم تحالف حارس الازدهار وضم دولاً عديدة من بينها مملكة البحرين فقط من منطقة الخليج، ولاتزال تلك التهديدات مستمرة بالرغم من الضربات التي تم توجيهها للحوثيين، ورابعها: الوجود العسكري الأمريكي في مناطق الصراعات والجدل حول استمراره أو الحد من ذلك الوجود على الأرض وخاصة في ظل توظيف التكنولوجيا الحديثة لاستهداف القوات الأمريكية في مناطق مختلفة، وخامسها: الأدوار الأمريكية تجاه الصراعات الإقليمية وخاصة «ليبيا، السودان، اليمن»، والتساؤل الرئيسي الذي يفرض ذاته :هل لدى الإدارة الأمريكية الجديدة استراتيجية لإنهاء تلك الصراعات من خلال ما تملكه من أدوات سياسية واقتصادية وعسكرية تمثل ضغوطاً على أطراف تلك الصراعات ؟ أم أنه سوف تتم إدارة تلك الصراعات على نحو يضمن عدم خروجها عن السيطرة أي «الصراع المنضبط» بما لا يهدد المصالح الحيوية والنفوذ الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط؟!
وربما يكون لدينا إجابات مبدئية حول مضامين السياسات الأمريكية والتي تتضمن ثوابت ومتغيرات لا تتحدد بما تستهدفه الولايات المتحدة فحسب بل في تأثير المشهد الإقليمي أيضاً على مسارات تلك السياسات، ولكن في تقديري أن التحدي الأكبر الذي يواجه إدارة الرئيس ترامب هو كيفية تجديد الشراكة الأمريكية مع كل دول المنطقة والتي لا تبنى فقط على الأطر التقليدية من خلال الاتفاقيات والوجود العسكري وإنما من خلال ثلاثة مسارات مهمة الأول: بدء حوار استراتيجي أمني موسع مع كل دول المنطقة التي تعج بشراكات ومبادرات أمنية، فمن خلال ذلك الحوار لن يكون الحديث عن قائمة التهديدات الأمنية وهي معروفة ولكن الأولويات بالنسبة إلى الجانبين وكيفية مواجهتها، والثاني: إن معضلة الأمن الإقليمي الأساسية في مناطق الصراعات هي تراجع دور الدولة الوطنية بما ينعكس على منظومة الأمن الإقليمي ذاتها والولايات المتحدة تملك من الأدوات ما يمكنها من الإسهام في إعادة بناء تلك الدول مجدداً، أما المسار الثالث والأخير فهو الفجوة بين طبيعة التهديدات والقدرات وخاصة التكنولوجيا العسكرية والتي تعكسها الأجيال المتسارعة من الذكاء الاصطناعي، فالولايات المتحدة والدول الغربية لا تزال تهيمن على سوق السلاح العالمي ولكن المسألة ليست في الكم ولكن نوعية التسلح ومدى الاستعداد للإسهام في توطين الصناعات العسكرية للشركاء.
إن تغير طبيعة التهديدات ودخول أطراف دولية وبقوة على خط التنافس في الشرق الأوسط ومساعي بعض القوى لتأسيس أطر مناوئة للشراكات الغربية، مستجدات تتطلب رؤية أمريكية جديدة للأمن الإقليمي.
{ مدير برنامج الدراسات
الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك