العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

فلاش باك

لست‭ ‬متصابيا،‭ ‬ولكنني‭ -‬كما‭ ‬أردد‭ ‬دائما‭ ‬في‭ ‬مقالاتي‭- ‬لا‭ ‬أعترف‭ ‬بعمري‭ ‬البيولوجي‭/‬الحسابي،‭ ‬أي‭ ‬لا‭ ‬يهمني‭ ‬أنني‭ ‬مولود‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬كذا‭ ‬وكذا،‭ ‬وليس‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬التهرب‭ ‬من‭ ‬حقيقة‭ ‬ثابتة،‭ ‬ولكن‭ ‬لأنني‭ ‬أحس‭ ‬في‭ ‬أعماقي‭ ‬بأنني‭ ‬شاب‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الثلاثينات،‭ (‬خليها‭ ‬الأربعينات‭)‬،‭ ‬ولا‭ ‬أحب‭ ‬التصرف‭ ‬بما‭ ‬يوحي‭ ‬بأنني‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬السن،‭ ‬كما‭ ‬يحلو‭ ‬للكثير‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬وبنات‭ ‬جيلي‭ ‬الذين‭ ‬يعشقون‭ ‬الشكاة،‭ ‬ولا‭ ‬يفتأون‭ ‬يرددون‭ ‬كلاماً‭ ‬محبطاً‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ (‬خلاص‭ ‬راحت‭ ‬علينا‭)‬،‭ ‬وأغتاظ‭ ‬وأغضب‭ ‬عندما‭ ‬يمنعني‭ ‬أحد‭ ‬أولادي‭ ‬من‭ ‬تغيير‭ ‬مصباح‭ ‬كهربائي‭ ‬باستخدام‭ ‬السلم‭ ‬أو‭ ‬حمل‭/ ‬رفع‭ ‬شيء‭ ‬ثقيل‭ ‬الوزن،‭ ‬ولو‭ ‬نسبيا‭ ‬مثل‭ ‬حقيبة‭ ‬السفر‭.‬

ولكن‭ ‬هناك‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬أشياء‭ ‬تذكرني‭ ‬بأنني‭ ‬تقدمت‭ ‬في‭ ‬السن،‭ ‬فمعظم‭ ‬زميلات‭ ‬الدراسة‭ ‬الجامعية‭ ‬صرن‭ ‬جدات،‭ ‬والأنكى‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬حديث‭ ‬الذكريات‭ ‬المهببة‭ ‬الذي‭ ‬بدأت‭ ‬فيه‭ ‬نبهني‭ ‬إلى‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬الابتدائية‭ ‬والمتوسطة‭ ‬والثانوية‭ ‬عندما‭ ‬كانت‭ ‬المناهج‭ ‬هي‭ ‬ذات‭ ‬المناهج‭ ‬التي‭ ‬وضعها‭ ‬المستعمر‭ ‬البريطاني،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬ممن‭ ‬درسوني‭ ‬مختلف‭ ‬المواد‭ ‬في‭ ‬المرحلتين‭ ‬الثانوية‭ ‬والجامعية‭ ‬بريطانيين‭ ‬من‭ ‬مخلفات‭ ‬الاستعمار،‭ ‬وأذكر‭ ‬جيداً‭ ‬كيف‭ ‬دخل‭ ‬علينا‭ ‬مفتش‭ ‬التعليم‭ ‬البريطاني‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬ونحن‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬الابتدائية،‭ ‬وكان‭ ‬المدرس‭ ‬الواقف‭ ‬أمامنا‭ ‬يومها‭ ‬هو‭ ‬جدّي‭ ‬الحاج‭ ‬فرحان‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يدرسنا‭ ‬العلوم‭ ‬الدينية‭ (‬كما‭ ‬ذكرت‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬مقالاتي‭ ‬فأهل‭ ‬أمي‭ ‬عملوا‭ ‬في‭ ‬تدريس‭ ‬القرآن‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬قرنين‭ ‬ولديهم‭ ‬مسجد‭ ‬عتيق‭ ‬في‭ ‬بلدتنا‭ ‬بدين‭ ‬وألحق‭ ‬به‭ ‬مؤخراً‭ ‬جامع‭ ‬كبير‭ ‬مازالت‭ ‬إمامته‭ ‬معقودة‭ ‬لأخوالي‭ ‬ولذريتهم‭)‬،‭ ‬وصافح‭ ‬المفتش‭ ‬جدّي‭ ‬ثم‭ ‬قدم‭ ‬له‭ ‬علبتين‭ ‬من‭ ‬الحلوى،‭ ‬ليوزعها‭ ‬علينا،‭ ‬فسال‭ ‬لها‭ ‬لعابنا،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬أن‭ ‬غادر‭ ‬المفتش‭ ‬حجرة‭ ‬الدراسة‭ ‬حتى‭ ‬مسح‭ ‬جدّي‭ ‬يده‭ ‬على‭ ‬المصحف،‭ ‬وأبلغنا‭ ‬أنه‭ ‬سيرمي‭ ‬بالحلوى‭ ‬تلك‭ ‬في‭ ‬جدول‭ ‬ماء‭ ‬كبير‭ ‬كان‭ ‬يجري‭ ‬بمحاذاة‭ ‬المدرسة،‭ ‬وبعد‭ ‬انتهاء‭ ‬الحصة‭ ‬تابعناه‭ ‬بعيون‭ ‬باكية‭ ‬وهو‭ ‬يرمي‭ ‬بها،‭ ‬وفكر‭ ‬بعضنا‭ ‬في‭ ‬القفز‭ ‬إلى‭ ‬الماء‭ ‬لإنقاذ‭ ‬بعض‭ ‬قطع‭ ‬الحلوى‭ ‬ولكن‭ ‬نظرة‭ ‬زاجرة‭ ‬من‭ ‬جدّي‭ ‬منعتنا‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭. ‬وتمتم‭ ‬الرجل‭ ‬بكلام‭ ‬عن‭ ‬الاستعمار‭ ‬والخواجات،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعني‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلينا‭ ‬شيئا،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬يعنينا‭ ‬وقتها‭ ‬أنه‭ ‬حرمنا‭ ‬من‭ ‬الحلوى،‭ ‬وفي‭ ‬نهاية‭ ‬اليوم‭ ‬الدراسي،‭ (‬فشَّ‭) ‬بعض‭ ‬الطلاب‭ ‬غلّهم‭ ‬فيّ‭ ‬وأشبعوني‭ ‬ضرباً‭ ‬لأن‭ ‬جدّي‭ ‬حرمهم‭ ‬من‭ ‬طيبات‭ ‬الخواجات‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬جدّي‭ ‬الحاج‭ ‬فرحان‭ ‬يحمل‭ ‬أي‭ ‬مؤهل‭ ‬أكاديمي،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬كان‭ ‬معلماً‭ ‬في‭ ‬المدرسة،‭ ‬ومردّ‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬التعليم‭ ‬بدأ‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬فيما‭ ‬يسمى‭ ‬الخلاوي‭ ‬ومفردها‭ ‬خلوة،‭ ‬وهو‭ ‬المسجد‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتم‭ ‬فيه‭ ‬تعليم‭ ‬الصغار‭ ‬القراءة‭ ‬والكتابة‭ ‬وتحفيظهم‭ ‬القرآن،‭ (‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬الكُتّاب‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭)‬،‭ ‬وأذكر‭ ‬أن‭ ‬جدّي‭ ‬ذاك‭ ‬كان‭ ‬فصيح‭ ‬اللسان‭ ‬إذا‭ ‬تكلم‭ ‬بالعربية،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬يكتب‭ ‬الشعر،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬يتحدث‭ ‬باللغة‭ ‬النوبية‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬شرح‭ ‬الدروس‭ ‬لعلمه‭ ‬أن‭ ‬العجم‭ ‬البجم‭ ‬الجالسين‭ ‬أمامه‭ ‬لا‭ ‬يفهمون‭ ‬مرامي‭ ‬كل‭ ‬كلامه،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬كونه‭ ‬قريباً‭ ‬لي‭ ‬أي‭ ‬ميزة‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلي،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يضربني‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬غيري،‭ ‬وبدون‭ ‬سبب‭ ‬في‭ ‬غالب‭ ‬الأحوال،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يدخل‭ ‬حجرة‭ ‬الدراسة‭ ‬يحمل‭ ‬عصا‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬جريد‭ ‬النخل،‭ ‬فإذا‭ ‬أخطأ‭ ‬تلميذ‭ ‬جالس‭ ‬في‭ ‬الصفوف‭ ‬الخلفية‭ ‬هوى‭ ‬بعصاه‭ ‬تلك‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يجلسون‭ ‬في‭ ‬الصفوف‭ ‬الأمامية،‭ ‬وكنت‭ ‬منهم‭ ‬بحكم‭ ‬قصر‭ ‬قامتي،‭ ‬وكان‭ ‬معظم‭ ‬من‭ ‬يجلسون‭ ‬في‭ ‬الصفوف‭ ‬الخلفية‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬السن‭.. ‬نعم‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬المألوف‭ ‬أن‭ ‬تجد‭ ‬في‭ ‬الصف‭ ‬الثالث‭ ‬الابتدائي‭ ‬شخصاً‭ ‬عمره‭ ‬16‭ ‬سنة‭ ‬مثلا،‭ ‬ويعمل‭ ‬بالزراعة‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬اليوم‭ ‬الدراسي،‭ ‬أما‭ ‬كيف‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬مقعد‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬فـ«بسيطة‮»‬‭: ‬يذهب‭ ‬أهله‭ ‬إلى‭ ‬مكتب‭ ‬الإحصاء‭ ‬ويستخرجون‭ ‬له‭ ‬شهادة‭ ‬ميلاد‭ ‬‮«‬بالتسنين‮»‬‭.. ‬ويحصلون‭ ‬على‭ ‬خصم‭ ‬محترم‭ ‬يجعل‭ ‬ولدهم‭ ‬الشاب‭ ‬طفلاً‭ ‬يحق‭ ‬له‭ ‬الالتحاق‭ ‬بمدرسة،‭ ‬وهناك‭ ‬ملايين‭ ‬السودانيين‭ ‬من‭ ‬مواليد‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬يناير‭ ‬مع‭ ‬اختلاف‭ ‬في‭ ‬السنوات‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا