العدد : ١٧٠٧٩ - الخميس ٢٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٥ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٧٩ - الخميس ٢٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٥ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

ضرب النار في الفاضي والمليان

كان‭ ‬التدريب‭ ‬العسكري‭ ‬إلزاميا‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية‭ ‬على‭ ‬عهد‭ ‬أول‭ ‬حكومة‭ ‬عسكرية‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬السودان،‭ ‬الحافل‭ ‬بتدخل‭ ‬العسكرتاريا‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬السياسة،‭ ‬حتى‭ ‬جعلوا‭ ‬البلاد‭ ‬قوة‭ ‬عظمى‭ ‬في‭ ‬البؤس،‭ (‬تحرر‭ ‬السودان‭ ‬من‭ ‬الاستعمار‭ ‬البريطاني‭ ‬قبل‭ ‬67‭ ‬عاما،‭ ‬وقع‭ ‬خلالها‭ ‬تحت‭ ‬الاستعمار‭ ‬و«الاستحمار‮»‬‭ ‬العسكري‭ ‬لـ54‭ ‬سنة‭ ... ‬حتى‭ ‬الآن‭).‬

كان‭ ‬يتولى‭ ‬تدريبنا‭ ‬عسكريا‭ ‬جنود‭ ‬متقاعدون‭ ‬ملحقون‭ ‬بالمدرسة،‭ ‬أي‭ ‬يعتبرون‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬أسرتها‭: ‬طوابير‭ ‬ورياضة‭ ‬عنيفة‭ ‬ومسيرات‭ ‬طويلة‭ ‬ونحن‭ ‬نحمل‭ ‬بنادق‭ ‬من‭ ‬بقايا‭ ‬حرب‭ ‬داحس‭ ‬والغبراء،‭ ‬وتنظيف‭ ‬البنادق‭ ‬وتفكيكها‭ ‬وتنظيفها‭ ‬ثم‭ ‬استخدامها‭ ‬في‭ ‬الرماية‭. (‬كان‭ ‬صنف‭ ‬البنادق‭ ‬الذي‭ ‬نتدرب‭ ‬عليه‭ ‬يسمى‭ ‬أبو‭ ‬عشرة‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يتسع‭ ‬لعشر‭ ‬طلقات‭ ‬من‭ ‬الرصاص‭) ‬وفي‭ ‬العطلة‭ ‬الصيفية‭ ‬التي‭ ‬تسبق‭ ‬الانتقال‭ ‬إلى‭ ‬السنة‭ ‬النهائية،‭ ‬كان‭ ‬يقام‭ ‬معسكر‭ ‬ضخم‭ ‬يضم‭ ‬طلاب‭ ‬عدة‭ ‬مدارس‭ ‬ثانوية،‭ ‬يشرف‭ ‬عليه‭ ‬عسكريون‭ ‬حقيقيون،‭ ‬وطوال‭ ‬نحو‭ ‬40‭ ‬يوما‭ ‬كانوا‭ ‬يعاملوننا‭ ‬كجنود‭ ‬حقيقيين،‭ ‬وكنا‭ ‬كطلاب‭ ‬بينهم‭ ‬والمرحلة‭ ‬الجامعية‭ ‬سنة‭ ‬واحدة‭ ‬نحس‭ ‬بأن‭ ‬العسكرية‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الإذلال‭ ‬لنا،‭ ‬وكنا‭ ‬ننظر‭ ‬إلى‭ ‬الجنود‭ ‬الذين‭ ‬يتولون‭ ‬تدريبنا‭ ‬نظرة‭ ‬دونية،‭ ‬وخاصة‭ ‬أن‭ ‬العسكرية‭ ‬بها‭ ‬قيود‭ ‬وضوابط‭ ‬تبدو‭ ‬سخيفة‭ ‬للمدنيين‭. ‬وكنا‭ ‬نضحك‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬التعابير‭ ‬العسكرية‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬قيام‭ ‬راقدا‮»‬‭! ‬ودي‭ ‬تيجي‭ ‬إزاي‭ ‬يا‭ ‬إما‭ ‬نرقد‭ ‬وإما‭ ‬نقوم‭. ‬ولم‭ ‬نكن‭ ‬نعرف‭ ‬من‭ ‬اين‭ ‬أتوا‭ ‬بكلمة‭ ‬‮«‬صفا‮»‬‭ ‬للمباعدة‭ ‬بين‭ ‬الساقين‭).‬

وحبسوني‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬يومين‭ ‬متتالين‭ ‬لأنني‭ ‬رفضت‭ ‬تلميع‭ ‬القطع‭ ‬النحاسية‭ ‬في‭ ‬حزامي‭ ‬العسكري،‭ ‬وحاولت‭ ‬مرارا‭ ‬ارتكاب‭ ‬مخالفات‭ ‬تقود‭ ‬الى‭ ‬حبسي،‭ ‬كي‭ ‬أرتاح‭ ‬من‭ ‬عناء‭ ‬الطوابير‭ ‬ولكنهم‭ ‬عاقبوني‭ ‬فقط‭ ‬بما‭ ‬يسمونه‭ ‬‮«‬طابور‭ ‬ذنب‮»‬،‭ ‬وأقسى‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬ان‭ ‬تقف‭ ‬ثابتا‭ ‬تحت‭ ‬الشمس‭ ‬عدة‭ ‬ساعات‭ ‬حاملا‭ ‬تلك‭ ‬البندقية‭ ‬الركيكة،‭ ‬وكنا‭ ‬نتساقط‭ ‬كأوراق‭ ‬الخريف‭ ‬خلال‭ ‬الطوابير‭ ‬القاسية‭ ‬والركض‭ ‬لمسافات‭ ‬طويلة‭ ‬ونحن‭ ‬نحمل‭ ‬بنادق‭ ‬ثقيلة‭ ‬الوزن‭ ‬صنعت‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحجري‭ ‬الأول‭. ‬ثم‭ ‬جاءت‭ ‬مسابقات‭ ‬ضرب‭ ‬النار،‭ ‬وكانت‭ ‬المدارس‭ ‬تتنافس‭ ‬في‭ ‬إحراز‭ ‬مراكز‭ ‬متقدمة،‭ ‬ورقدنا‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬مصوبين‭ ‬بنادقنا‭ ‬نحو‭ ‬أهداف‭ ‬وضعت‭ ‬على‭ ‬جانب‭ ‬تل‭ ‬صخري‭. ‬وتمكنت‭ ‬من‭ ‬تسديد‭ ‬خمس‭ ‬طلقات‭ ‬محكمة‭ ‬نحو‭ ‬الهدف،‭ ‬فنبهني‭ ‬زميلي‭ ‬الراقد‭ ‬إلى‭ ‬جواري‭ ‬إلى‭ ‬ان‭ ‬ذلك‭ ‬يعني‭ ‬أنني‭ ‬سأنال‭ ‬رتبة‭ ‬عريف‭ ‬مما‭ ‬يؤهلني‭ ‬لتدريب‭ ‬تلاميذ‭ ‬المراحل‭ ‬الدنيا‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬الدراسي‭ ‬التالي‭. ‬وكانت‭ ‬تلك‭ ‬كارثة،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬همي‭ ‬أن‭ ‬أكرس‭ ‬كل‭ ‬وقتي‭ ‬للمذاكرة‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬الأخيرة‭ ‬لأنال‭ ‬الشهادة‭ ‬الثانوية‭ ‬وأدخل‭ ‬الجامعة،‭ ‬ولحسن‭ ‬حظي‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬جولة‭ ‬ثانية‭ ‬حاسمة‭ ‬للرماية،‭ ‬فصرت‭ ‬أطلق‭ ‬النار‭ ‬على‭ ‬الأحجار‭ ‬عامدا‭ ‬فتحدث‭ ‬أصواتا‭ ‬كتلك‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أسمعها‭ ‬في‭ ‬أفلام‭ ‬الكاوبوي‭: ‬تشيوووو‭ ‬بووووم‭.. ‬وطرب‭ ‬زملائي‭ ‬للأمر‭ ‬وجاروني‭ ‬في‭ ‬الرماية‭ ‬العشوائية‭ ‬فتطايرت‭ ‬الأحجار‭ ‬من‭ ‬جنبات‭ ‬الجبل‭ ‬حتى‭ ‬صرخ‭ ‬ضابط‭ ‬فينا‭ ‬بالتوقف،‭ ‬ولكننا‭ ‬كنا‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬طرب‭ ‬على‭ ‬إيقاع‭ ‬الرصاص‭ ‬على‭ ‬الحجر،‭ ‬وأهملنا‭ ‬أوامره‭ ‬حتى‭ ‬فرغت‭ ‬خزائن‭ ‬بنادقنا‭.‬

وكان‭ ‬جزاؤنا‭ ‬طابور‭ ‬ذنب‭: ‬جعلونا‭ ‬نقف‭ ‬ثلاث‭ ‬ساعات‭ ‬متتالية‭ ‬في‭ ‬الشمس‭ ‬حاملين‭ ‬تلك‭ ‬البنادق‭ ‬الركيكة‭. ‬ثم‭ ‬أرغمونا‭ ‬على‭ ‬كنس‭ ‬كافة‭ ‬دورات‭ ‬المياه‭ ‬في‭ ‬المعسكر‭ ‬وبعدها‭ ‬ساقونا‭ ‬إلى‭ ‬الحبس‭ ‬خمسة‭ ‬أيام‭ ‬وحرمونا‭ ‬من‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬الطابور‭ ‬الختامي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يقام‭ ‬في‭ ‬استاد‭ ‬الخرطوم‭ ‬بحضور‭ ‬وزير‭ ‬التربية‭ ‬ووزير‭ ‬الدفاع،‭ ‬بل‭ ‬وإمعاناً‭ ‬في‭ ‬إذلالنا‭ ‬كلفونا‭ ‬بتوزيع‭ ‬المشروبات‭ (‬مجاناً‭) ‬على‭ ‬آلاف‭ ‬الضيوف‭ ‬ولكننا‭ ‬استغللنا‭ ‬سذاجة‭ ‬بعضهم‭ ‬وبعنا‭ ‬لهم‭ ‬المشروبات‭ ‬وخرجنا‭ ‬من‭ ‬الحفل‭ ‬بثروة‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬بها‭.‬

كان‭ ‬وزير‭ ‬التربية‭ (‬اللواء‭ ‬طلعت‭ ‬فريد‭) ‬هو‭ ‬نفس‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬طردني‭ ‬وآخرين‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬التالية‭ ‬لقيامنا‭ ‬بنشاط‭ ‬معاد‭ ‬للحكومة،‭ ‬وزاملت‭ ‬اثنتين‭ ‬من‭ ‬بناته‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬لاحقاً،‭ ‬وذات‭ ‬يوم‭ ‬قلت‭ ‬له‭: ‬يا‭ ‬عم‭ ‬طلعت‭ (‬وكانت‭ ‬حكومتهم‭ ‬قد‭ ‬سقطت‭ ‬وقتها‭): ‬هل‭ ‬تعرف‭ ‬أنك‭ ‬طردتني‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭ ‬الثانوية؟‭ ‬قال‭: ‬جائز‭. ‬ولو‭ ‬ما‭ ‬ركزت‭ ‬على‭ ‬دروسك‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬وتركت‭ ‬السياسة‭ ‬لأهلها‭ ‬ستجد‭ ‬نفسك‭ ‬مطروداً‭ ‬من‭ ‬الجامعة‭. ‬وصادقت‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يوما‭ ‬ما‭ ‬وزيراً‭ ‬ملء‭ ‬السمع‭ ‬والبصر،‭ ‬ولكنه‭ ‬لم‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬الحكومة‭ ‬إلا‭ ‬بمعاشه‭ ‬التقاعدي‭ ‬وظل‭ ‬موضع‭ ‬احترام‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬كانوا‭ ‬يهتفون‭ ‬ضده‭ ‬لأننا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬‮«‬شفنا‮»‬‭ ‬من‭ ‬أتوا‭ ‬بعده‭ ‬عرفنا‭ ‬كم‭ ‬كان‭ ‬وزملاؤه‭ ‬عفيفين‭ ‬ونظيفي‭ ‬الأيدي‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا