العدد : ١٧٠٨٠ - الجمعة ٢٧ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٦ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٨٠ - الجمعة ٢٧ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٦ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

أين نحن من أجدادنا

يحلو‭ ‬لي‭ ‬التباهي‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر‭ ‬بتركة‭ ‬جدي‭ ‬لأبي‭ ‬وكان‭ ‬يوصف‭ ‬بالفنجري،‭ ‬والفنجري‭ ‬عند‭ ‬السودانيين‭ ‬والمصريين‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يبذل‭ ‬ماله‭ ‬بسخاء‭ ‬ومشهود‭ ‬له‭ ‬بالشهامة‭ ‬والكرم،‭ ‬وقد‭ ‬تقال‭ ‬الكلمة‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬شخص‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬التباهي‭ ‬والفشخرة،‭ ‬وكان‭ ‬جدي‭ ‬لأبي‭ ‬رجلا‭ ‬فنجريا‭ ‬برجوازيا،‭ ‬و‮«‬كان‮»‬‭ ‬يملك‭ ‬مساحات‭ ‬طيبة‭ ‬من‭ ‬الأراضي‭ ‬الخصبة،‭ ‬ولو‭ ‬حسبت‭ ‬اليوم‭ ‬نصيبي‭ ‬من‭ ‬الأراضي‭ ‬التي‭ ‬ورثناها‭ ‬عنه،‭ ‬لما‭ ‬فزت‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬مساحة‭ ‬قبر،‭ ‬والسر‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬جدي‭ ‬لأبي‭ ‬قايض‭ ‬أراضي‭ ‬زراعية‭ ‬شاسعة‭ ‬بحمير‭. ‬نعم،‭ ‬فكلما‭ ‬أعجب‭ ‬بحمار‭ ‬ساوم‭ ‬صاحبه‭: ‬أعطيك‭ ‬ربع‭ ‬فدان‭ ‬مقابل‭ ‬الحمار،‭ ‬وحمار‭ ‬أبيض‭ ‬على‭ ‬حمار‭ ‬بني‭ ‬على‭ ‬حمار‭ ‬أسود‭ ‬على‭ ‬حمار‭ ‬بيج‭ ‬وآخر‭ ‬تركواز،‭ ‬صار‭ ‬جدي‭ ‬يملك‭ ‬قطيعاً‭ ‬من‭ ‬الحمير‭ ‬‮«‬آخر‭ ‬موديل‮»‬،‭ ‬ويقال‭ ‬إن‭ ‬عمدة‭ ‬بلدتنا‭ ‬كان‭ ‬يغار‭ ‬من‭ ‬جدي‭ ‬لأنه‭ ‬يملك‭ ‬أسطولا‭ ‬من‭ ‬الحمير‭ ‬ذات‭ ‬الدفع‭ ‬الرباعي،‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬هو‭ (‬العمدة‭) ‬يملك‭ ‬حمارا‭ ‬واحدا،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لم‭ ‬يترك‭ ‬جدي‭ ‬لورثته‭ ‬سوى‭ ‬قطعة‭ ‬أرض‭ ‬بيضاء‭ ‬غير‭ ‬صالحة‭ ‬للزراعة‭ ‬من‭ ‬فرط‭ ‬تشبعها‭ ‬بالأملاح‭.‬

واعتقد‭ ‬أن‭ ‬جدي‭ ‬عاش‭ ‬هانئ‭ ‬البال‭ ‬مستمتعاً‭ ‬بحميره‭ ‬المزودة‭ ‬بسروج‭ ‬جميلة‭ ‬الصنع‭. ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬زمن‭ ‬الاستقرار‭ ‬المادي‭ ‬والنفسي‭. ‬وكان‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يسير‭ ‬على‭ ‬حاله‭ ‬لعشرات‭ ‬السنين‭: ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬دولار‭ ‬يصعد‭ ‬ويهبط‭ ‬فتنفجر‭ ‬معه‭ ‬الشرايين‭ ‬وتتصلب‭ ‬الأوردة،‭ ‬أو‭ ‬أسهم‭ ‬تنهار‭ ‬فتنهار‭ ‬معها‭ ‬الأعصاب‭ ‬وتصاب‭ ‬البيوت‭ ‬بالخراب،‭ ‬عندما‭ ‬يصب‭ ‬رب‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬أفلس‭ ‬بسبب‭ ‬الأسهم‭ ‬جام‭ ‬غضبه‭ ‬على‭ ‬أم‭ ‬العيال‭: ‬أنت‭ ‬امرأة‭ ‬شؤم‭.. ‬روحي‭ ‬بيت‭ ‬أهلك،‭ ‬وعساكي‭ ‬ما‭ ‬تردين،‭ ‬لأني‭ ‬ما‭ ‬أبي‭ (‬أريد‭) ‬أشوف‭ ‬خلقتك‭.. ‬خلينا‭ ‬نجيبها‭ ‬من‭ ‬قاصرها‭.. ‬روحي‭ ‬أنت‭ ‬طالق‭ ‬ولعلمك‭ ‬لا‭ ‬ترفعين‭ ‬عليّ‭ ‬دعوى‭ ‬نفقة‭ ‬لأنك‭ ‬ما‭ ‬راح‭ ‬تحصلين‭ ‬شيء‭ ‬يا‭ ‬غراب‭ ‬البين‭.‬

جدي‭ ‬كان‭ ‬سعيداً‭ ‬بحميره‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬السرعة‭ ‬القصوى‭ ‬لأعلاها‭ ‬لياقة‭ ‬بدنية‭ ‬عشرة‭ ‬كيلومترات‭ ‬في‭ ‬الساعة،‭ ‬وأنا‭ ‬أركب‭ ‬سيارة‭ ‬قوة‭ ‬ألف‭ ‬حمار‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬فيها‭ ‬يعمل‭ ‬أتوماتيكياً،‭ ‬وأنا‭ ‬سعيد‭ ‬بها‭ ‬ولكن‭ ‬العيال‭ ‬يريدون‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬أشتري‭ ‬بي‭ ‬ام‭ ‬دبليو‭ ‬أو‭ ‬لكزس‭. ‬وأعرف‭ ‬أنه‭ ‬لو‭ ‬فقدت‭ ‬قواي‭ ‬العقلية‭ ‬واشتريت‭ ‬إحدى‭ ‬هاتين‭ ‬السيارتين‭ ‬فإن‭ ‬العيال‭ ‬سيبدأون‭ ‬في‭ ‬الطنطنة‭: ‬بابا‭ ‬ممكن‭ ‬نشتري‭ ‬لامبورغيني‭ ‬أو‭ ‬فيراري؟‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬في‭ ‬تقديري‭ ‬عن‭ ‬سؤالي‭: ‬بابا‭ ‬ممكن‭ ‬تتزوج‭ ‬نانسي‭ ‬عجرم‭ ‬أو‭ ‬هيفاء‭ ‬وهبي؟‭ ‬يا‭ ‬عيال‭ ‬كل‭ ‬فولة‭ ‬ولها‭ ‬كيال،‭ ‬ومن‭ ‬فضل‭ ‬الله‭ ‬انه‭ ‬ألهم‭ ‬اليابانيين‭ ‬والكوريين‭ ‬أن‭ ‬يصنعوا‭ ‬سيارات‭ ‬يستطيع‭ ‬أمثالي‭ ‬شراءها‭. ‬ثم‭ ‬أقول‭ ‬لهم‭: ‬عندما‭ ‬أحرزت‭ ‬نتيجة‭ ‬طيبة‭ ‬عند‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬الصف‭ ‬الثالث‭ ‬إلى‭ ‬الرابع‭ ‬الابتدائي‭... ‬لا‭ ‬يتركونني‭ ‬أكمل‭ ‬بل‭ ‬يصيحون‭ ‬بصوت‭ ‬واحد‭: ‬حافظين‭ ‬الموال‭.. ‬خالك‭ ‬أعطاك‭ ‬حمارا‭ ‬تذهب‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬وصرت‭ ‬من‭ ‬الطبقة‭ ‬الارستقراطية‭ ‬مثل‭ ‬أولاد‭ ‬العمدة‭ ‬وشيخ‭ ‬البلد‭.‬

والذنب‭ ‬ليس‭ ‬ذنبنا‭ ‬وحدنا‭ ‬في‭ ‬أننا‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬هلع‭ ‬وهرولة‭ ‬وتشتت‭ ‬ذهن،‭ ‬ولا‭ ‬نقنع‭ ‬بما‭ ‬لدينا،‭ ‬بل‭ ‬معنيون‭ ‬ببورصة‭ ‬طوكيو‭ ‬والكويت‭ ‬وبمؤشر‭ ‬داو‭ ‬جونز‭ ‬ومجريات‭ ‬الأمور‭ ‬في‭ ‬بورصة‭ ‬هونغ‭ ‬كونغ‭.. ‬عندما‭ ‬كنا‭ ‬صغارا‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬قواعد‭ ‬متوارثة‭ ‬تحكم‭ ‬سلوك‭ ‬الفرد‭ ‬والجماعة‭ ‬وكان‭ ‬لكل‭ ‬بلدة‭ ‬وقرية‭ ‬منظومة‭ ‬من‭ (‬اللوائح‭) ‬غير‭ ‬المكتوبة‭ ‬يلتزم‭ ‬بها‭ ‬الجميع‭. ‬كنا‭ ‬إذا‭ ‬سمعنا‭ ‬ونحن‭ ‬صبية‭ ‬بأن‭ ‬شخصاً‭ ‬من‭ ‬قرية‭ ‬أخرى‭ ‬تحرش‭ ‬لفظياً‭ ‬بفتاة‭ ‬من‭ ‬حينا،‭ ‬نتربص‭ ‬له‭ ‬ونرجمه‭ ‬بالحجارة‭ ‬وننهال‭ ‬عليه‭ ‬بالسباب‭ ‬حتى‭ ‬يتوارى‭ ‬عن‭ ‬الأنظار‭ ‬بعد‭ ‬افتضاح‭ ‬أمره‭.. ‬واليوم‭ ‬لا‭ ‬يخاف‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬بناتهم‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬أولاد‭ ‬الجيران‭. ‬وعلى‭ ‬صعيد‭ ‬آخر،‭ ‬قد‭ ‬يلجأ‭ ‬اليك‭ ‬صديق‭ ‬طالباً‭ ‬سلفة‭ - ‬مثلاً‭ - ‬لأنه‭ ‬يريد‭ ‬عرض‭ ‬زوجته‭ ‬الحامل‭ ‬على‭ ‬طبيب‭ ‬خاص،‭ ‬وتكون‭ ‬قادراً‭ ‬على‭ ‬تسليفه‭ ‬ولكنك‭ ‬تتساءل‭ ‬في‭ ‬سرك‭: ‬طيب‭ ‬لو‭ ‬مات‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يسدد‭ ‬السلفة؟‭ ‬هل‭ ‬أطالبه‭ ‬بمستند‭ ‬يقر‭ ‬فيه‭ ‬باستدانة‭ ‬المال‭ ‬مني؟‭ ‬عيب‭! ‬لا‭ ‬حل‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬أعتذر‭ ‬له‭ ‬متعللاً‭ ‬بعدم‭ ‬امتلاكي‭ ‬المبلغ‭ ‬المطلوب‭.‬

والشاهد‭ ‬هو‭ ‬أننا‭ ‬نملك‭ ‬أشياء‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أجدادنا‭ ‬يحلمون‭ ‬بها،‭ ‬ولا‭ ‬نعرف‭ ‬لها‭ ‬طعما،‭ ‬وكلما‭ ‬امتلكنا‭ ‬شيئا‭ ‬اكتشفنا‭ ‬أن‭ ‬علينا‭ ‬امتلاك‭ ‬أشياء‭ ‬أخرى،‭ ‬ولكننا‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬مقدار‭ ‬السعادة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يجدونها‭ ‬في‭ ‬القليل‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬عندهم‭. ‬ولهذا‭ ‬يقال‭ ‬إن‭ ‬عين‭ ‬ابن‭ ‬آدم‭ ‬لا‭ ‬يملأها‭ ‬إلا‭ ‬التراب‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا