العدد : ١٧٠٧٩ - الخميس ٢٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٥ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٧٩ - الخميس ٢٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٥ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عن المال والملايين

من‭ ‬الأقوال‭ ‬الشائعة‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا،‭ ‬إن‭ ‬ابن‭ ‬آدم‭ ‬‮«‬مفتري‮»‬،‭ ‬ولا‭ ‬يملأ‭ ‬عينه‭ ‬سوى‭ ‬التراب،‭ ‬والافتراء‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬هو‭ ‬الكذب‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬الغير‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يرتضيه‭ ‬ولكنه‭ ‬في‭ ‬العامية‭ ‬يعني‭ ‬فيما‭ ‬يعني‭ ‬عدم‭ ‬القبول‭ ‬بالحال‭ ‬وعدم‭ ‬القناعة‭. ‬أذكر‭ ‬أنه‭ ‬عندما‭ ‬عملت‭ ‬بشركة‭ ‬أرامكو‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬مرة‭ ‬أغترب‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬وطني‭ ‬كان‭ ‬راتبي‭ ‬4821‭ ‬ريالا،‭ ‬وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬حملت‭ ‬راتب‭ ‬أول‭ ‬شهر‭ ‬واقتحمت‭ ‬شارع‭ ‬الملك‭ ‬خالد‭ ‬في‭ ‬الخبر‭: ‬هات‭ ‬نص‭ ‬درزن‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬القمصان‭.. ‬خليهم‭ ‬درزن‭.. ‬واشتريت‭ ‬نظارة‭ ‬شمسية‭ ‬بيرسول‭ ‬سوداء،‭ (‬هل‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬ماركة‭ ‬النظارات‭ ‬هذه‭ ‬سيدة‭ ‬السوق؟‭) ‬مع‭ ‬أنني‭ ‬ملزم‭ ‬بارتداء‭ ‬نظارة‭ ‬طبية‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬اليوم،‭ ‬ولا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أرى‭ ‬طرف‭ ‬أنفي‭ ‬بنظارة‭ ‬شمسية‭. ‬وستة‭ ‬أزواج‭ ‬من‭ ‬الأحذية‭.. ‬وكنت‭ ‬أسافر‭ ‬إلى‭ ‬السودان‭ ‬مرة‭ ‬كل‭ ‬3‭ ‬أشهر‭ ‬محملا‭ ‬بالهدايا،‭ ‬بعبارة‭ ‬أخرى‭ ‬كنت‭ ‬أحس‭ ‬أن‭ ‬راتبي‭ ‬ضخم،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬كذلك‭ ‬بمعايير‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان،‭ ‬وكان‭ ‬كل‭ ‬همي‭ ‬أن‭ ‬أستمتع‭ ‬بشراء‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تشتهيه‭ ‬ولا‭ ‬تشتهيه‭ ‬نفسي‭.‬

جاء‭ ‬في‭ ‬تقرير‭ ‬أصدره‭ ‬بنك‭ ‬كاوتس‭ ‬البريطاني‭ ‬وهو‭ ‬البنك‭ ‬الذي‭ ‬تتعامل‭ ‬معه‭ ‬الأسرة‭ ‬المالكة،‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬يملك‭ ‬مليون‭ ‬جنيه‭ ‬إسترليني‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬حياة‭ ‬المليونيرات‭ ‬بل‭ ‬لا‭ ‬يستحق‭ ‬لقب‭ ‬مليونير‭! ‬تذكر‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬المبلغ‭ ‬يساوي‭ ‬ستة‭ ‬ملايين‭ ‬ريال‭ ‬سعودي‭/ ‬قطري،‭ ‬ونحو‭ ‬600‭ ‬ألف‭ ‬دينار‭ ‬بحريني‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬أكثر‭ (‬لا‭ ‬يُعتد‭ ‬بكلامي‭ ‬في‭ ‬العمليات‭ ‬الحسابية‭)‬،‭ ‬طيب‭ ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬من‭ ‬يملك‭ ‬مبلغا‭ ‬كهذا‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬رغد؟‭ ‬يجيب‭ ‬التقرير‭: ‬لأن‭ ‬المليونير‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬ضخم‭ ‬وعدد‭ ‬من‭ ‬الخدم‭ ‬وزورق‭ ‬أبهة،‭ ‬وعلى‭ ‬الأقل‭ ‬ثلاث‭ ‬سيارات‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬الراقي‭!‬

وفي‭ ‬تقديري‭ ‬فإن‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬أهلية‭ ‬من‭ ‬يملك‭ ‬مليون‭ ‬إسترليني‭ ‬للقب‭ ‬مليونير‭ ‬ليس‭ ‬للتضخم‭ ‬وارتفاع‭ ‬كلفة‭ ‬المعيشة،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬البعض‭ ‬يصبح‭ ‬سفيها‭ ‬كلما‭ ‬ازدادت‭ ‬ثروته‭. ‬أخوكم‭ ‬مثلا‭ ‬كان‭ ‬يحسب‭ ‬نفسه‭ ‬خاشوقجي‭ ‬الثاني‭ (‬وكان‭ ‬خاشوقجي‭ ‬وقتها‭ ‬مليونيرا‭ ‬أسطوريا‭) ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬راتبه‭ ‬نحو‭ ‬5000‭ ‬ريال،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬المبلغ‭ ‬يكفيه‭ ‬ويزيد‭ ‬على‭ ‬حاجته،‭ ‬فأنت‭ ‬لا‭ ‬تشتري‭ ‬12‭ ‬قميصا‭ ‬و12‭ ‬‮«‬فردة‮»‬‭ ‬حذاء‭ ‬كل‭ ‬سنة،‭ ‬وبمرور‭ ‬الزمن‭ ‬ارتفع‭ ‬راتبي،‭ ‬ولكن‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يحدث‭ ‬أي‭ ‬طفرة‭ ‬في‭ ‬مدخراتي،‭ ‬بل‭ ‬ظللت‭ ‬طوال‭ ‬عشرين‭ ‬عاما‭ ‬من‭ ‬حياتي‭ ‬العملية‭ ‬بلا‭ ‬مدخرات،‭ ‬والسبب‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬كلما‭ ‬ارتفع‭ ‬الراتب‭ ‬ارتفعت‭ ‬الكماليات‭ ‬إلى‭ ‬مرتبة‭ ‬الضروريات،‭ ‬وكان‭ ‬هناك‭ ‬أمر‭ ‬غريب،‭ ‬ففي‭ ‬أحوال‭ ‬نادرة‭ ‬كان‭ ‬الراتب‭ ‬يكفيني‭ ‬لأنه‭ ‬تعزز‭ ‬بحوافز‭ ‬أو‭ ‬مكافأة‭ ‬طارئة،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬في‭ ‬رصيدي‭ ‬المصرفي‭ ‬مبلغ‭ ‬ما‭ ‬حتى‭ ‬تتسرب‭ ‬المعلومات‭ ‬إلى‭ ‬أهلي‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬وأتلقى‭ ‬نداء‭ ‬عاجلا‭ ‬بأن‭ ‬قريبي‭ ‬الشاب‭ ‬مثلا‭ ‬لم‭ ‬يسدد‭ ‬أقساط‭ ‬الدراسة‭ ‬الجامعية،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬أختي‭ ‬بصدد‭ ‬ختان‭ ‬أولادها‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬عنزة‭ ‬خالتي‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬عملية‭ ‬قيصرية‭ ‬في‭ ‬مستشفى‭ ‬بيطري‭ ‬خاص‭.‬

ما‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أقوله‭ ‬هو‭ ‬إن‭ ‬الإنسان‭ ‬وكلما‭ ‬زاد‭ ‬ماله،‭ ‬زادت‭ ‬احتياجاته‭ ‬ولذلك‭ ‬تكتشف‭ ‬أن‭ ‬أوضاعك‭ ‬المالية‭ ‬هي،‭ ‬هي‭ ‬بعد‭ ‬ارتفاع‭ ‬دخلك‭ ‬الشهري‭ ‬من‭ ‬4000‭ ‬دولار‭ ‬إلى‭ ‬6000‭ ‬أو‭ ‬عشرة‭ ‬آلاف‭ ‬منه،‭ ‬وقبل‭ ‬حين‭ ‬وصلني‭ ‬إشعار‭ ‬بأن‭ ‬لي‭ ‬‮«‬فروق‮»‬‭ ‬راتب‭ ‬بكذا‭ ‬ألف‭ ‬ريال‭ ‬نتيجة‭ ‬خطأ‭ ‬في‭ ‬الحسابات‭ ‬لم‭ ‬يؤد‭ ‬إلى‭ ‬إضافة‭ ‬العلاوة‭ ‬السنوية‭ ‬إلى‭ ‬الراتب‭ ‬عدة‭ ‬أشهر،‭ ‬فأصبحت‭ ‬ثريا‭ ‬وأصبت‭ ‬بلوثة‭ ‬عقلية‭ ‬جعلتني‭ ‬أبدد‭ ‬تلك‭ ‬الثروة‭ ‬في‭ ‬غضون‭ ‬أيام‭ ‬معدودة،‭ ‬مما‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬أناسا‭ ‬يصابون‭ ‬بالخبل‭ ‬إذا‭ ‬هبطت‭ ‬عليهم‭ ‬ثروة‭ ‬كتلك‭ ‬التي‭ ‬هبطت‭ ‬علي‭ (‬نحو‭ ‬1600‭ ‬دينار‭)‬،‭ ‬وهذه‭ ‬النوعية‭ ‬لا‭ ‬تصيب‭ ‬الثراء‭ ‬الحقيقي‭ ‬الذي‭ ‬يتطلب‭ ‬امتلاك‭ ‬أسطول‭ ‬من‭ ‬السيارات‭ ‬والخدم‭ ‬والحشم‭ ‬والحراس‭ ‬الشخصيين،‭ ‬وذلك‭ ‬لطف‭ ‬من‭ ‬الله‭. (‬تعرفوا‭ ‬لو‭ ‬كنت‭ ‬غنيا‭ ‬فعلا‭ ‬لكان‭ ‬أعز‭ ‬أمنية‭ ‬عندي‭ ‬أن‭ ‬يعمل‭ ‬لدي‭ ‬مختص‭ ‬في‭ ‬المساج‭... ‬أكتب‭ ‬مقالا‭ ‬وانبطح‭.. ‬ليقوم‭ ‬بتفتيت‭ ‬عضلاتي‭ ‬المستهلكة‭ ‬وإعادة‭ ‬تأهيلها‭).‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا