العدد : ١٧٠٧٩ - الخميس ٢٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٥ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٧٩ - الخميس ٢٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٥ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

الدجاج من معشوق إلى مكروه

هناك‭ ‬بعض‭ ‬أمور‭ ‬تجعلني‭ ‬‮«‬أتنكر‮»‬‭ ‬لعمري‭ ‬الحقيقي،‭ ‬وأردد‭ ‬أنني‭ ‬مازلت‭ ‬في‭ ‬شرخ‭ ‬الشباب‭ (‬كيف‭ ‬تكون‭ ‬كلمة‭ ‬شرخ‭ ‬التي‭ ‬تنبئ‭ ‬عن‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التلف‭ ‬وصفا‭ ‬لمرحلة‭ ‬القوة‭ ‬والفتوة؟‭)‬،‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬تلك‭ ‬الأمور‭ ‬أنني،‭ ‬وبفضل‭ ‬الله‭ ‬قليل‭ ‬المرض‭. ‬صحيح‭ ‬انني‭ ‬أتداوى‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬طوال‭ ‬من‭ ‬علل‭ ‬مقيمة‭ ‬مزمنة‭ ‬ولكنها‭ ‬لا‭ ‬تجعلني‭ ‬طريح‭ ‬الفراش،‭ ‬كما‭ ‬أنني‭ ‬ولله‭ ‬الحمد‭ ‬قليل‭ ‬التعرض‭ ‬لأكثر‭ ‬الأمراض‭ ‬شيوعا،‭ ‬ألا‭ ‬وهي‭ ‬نزلات‭ ‬البرد‭ ‬والإنفلونزا،‭ ‬وظللت‭ ‬وسأظل‭ ‬أعزي‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬استخدامي‭ ‬للقرفة‭ (‬الدارسين‭) ‬في‭ ‬الشاي‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬منتظم‭ ‬طوال‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ربع‭ ‬قرن‭.‬

ولكن‭ ‬ومنذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عشرة‭ ‬أيام‭ ‬وأنا‭ ‬أتكلم‭ ‬مثل‭ ‬صبي‭ ‬يمر‭ ‬بالمرحلة‭ ‬الانتقالية،‭ ‬من‭ ‬المراهقة‭ ‬إلى‭ ‬البلوغ،‭ ‬فصوتي‭ ‬فيه‭ ‬بحة‭ ‬رجولية‭ ‬ورخاوة‭ ‬طفولية،‭ ‬ولا‭ ‬يعني‭ ‬ذلك‭ ‬أنني‭ ‬أعاني‭ ‬من‭ ‬خلل‭ ‬هرموني،‭ ‬بل‭ ‬يعني‭ ‬أنني‭ ‬أعاني‭ ‬من‭ ‬نزلة‭ ‬برد‭ ‬حادة‭ ‬لا‭ ‬أستبعد‭ ‬ان‭ ‬تكون‭ ‬انفلونزا‭ ‬دجاجية،‭ ‬فمع‭ ‬كل‭ ‬كحة‭ ‬يخرج‭  ‬من‭ ‬حلقي‭ ‬صوت‭ ‬يشبه‭ ‬كأكأة‭ ‬الديك،‭ ‬والغريب‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬هو‭ ‬أنني‭ ‬أصبت‭ ‬بنزلة‭ ‬برد‭ ‬مرتين‭ ‬فقط‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬العشر‭ ‬الأخيرة،‭ ‬وكانت‭ ‬المرتان‭ ‬عقب‭ ‬عودتي‭ ‬من‭ ‬الخرطوم‭ ‬أو‭ ‬خلال‭ ‬وجودي‭ ‬فيها،‭ ‬مما‭ ‬حدا‭ ‬ببعض‭ ‬الخبثاء‭ ‬الى‭ ‬اقتراح‭ ‬بوضع‭ ‬لافتة‭ ‬في‭ ‬مطار‭ ‬الخرطوم‭ ‬تقول‭: ‬السودان‭ ‬سبب‭ ‬رئيسي‭ ‬لنزلات‭ ‬البرد‭ ..‬ننصحك‭ ‬بالامتناع‭ ‬عنه‭! ‬هذا‭ ‬ظلم،‭ ‬فسِر‭ ‬إصابتي‭ ‬بالبرد‭ ‬عند‭ ‬وصولي‭ ‬إلى‭ ‬السودان‭ ‬أو‭ ‬عقب‭ ‬العودة‭ ‬منه،‭ ‬هو‭ ‬انني‭ ‬اظل‭ ‬هناك‭ ‬أجري‭ ‬ليل‭ ‬نهار‭ ‬لتقديم‭ ‬التعازي‭ ‬فيمن‭ ‬رحلوا‭ ‬عن‭ ‬دنيانا‭ ‬والتواصل‭ ‬مع‭ ‬أكبر‭ ‬عدد‭ ‬ممكن‭ ‬من‭ ‬الأقارب‭ ‬والأصدقاء‭. (‬وهأنذا‭ ‬اليوم‭ ‬محروم‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬اهلي‭ ‬الذين‭ ‬بعثرتهم‭ ‬الحرب‭ ‬العبثية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬وادٍ‭).‬

والنزلات‭ ‬الشعبية‭ ‬تصيبني‭ ‬بالاكتئاب،‭ ‬لأن‭ ‬السعال‭ ‬الجاف‭ ‬يحرمني‭ ‬من‭ ‬النوم‭ ‬الهادئ،‭ ‬وسيلان‭ ‬الأنف‭ ‬عندما‭ ‬يتحالف‭ ‬مع‭ ‬قولوني‭ ‬قليل‭ ‬الحياء‭ ‬يجعلني‭ ‬انطوائيا،‭ ‬فليس‭ ‬من‭ ‬اللائق‭ ‬ان‭ ‬تجلس‭ ‬عدة‭ ‬أيام‭ ‬مع‭ ‬آخرين‭ ‬ممسكا‭ ‬بمنديل‭ ‬ورقي‭ ‬لتنفخ‭ ‬أنفك‭: ‬فررررررررررررر،‭ ‬مما‭ ‬يثير‭ ‬تقززهم،‭ ‬وقد‭ ‬قرأت‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مطبوعة‭ ‬وموقع‭ ‬انترنت‭ ‬جدير‭ ‬بالثقة‭ ‬ان‭ ‬مرق‭ ‬او‭ ‬حساء‭ ‬الدجاج‭ ‬هو‭ ‬أفضل‭ ‬وسيلة‭ ‬لاحتواء‭ ‬نزلة‭ ‬البرد‭ ‬والتقليل‭ ‬من‭ ‬آثارها‭ ‬‮«‬غير‭ ‬الاجتماعية‮»‬‭. ‬يعني‭ ‬تسلق‭ ‬الدجاجة‭ ‬في‭ ‬ماء‭ ‬به‭ ‬بصل‭ ‬وبعض‭ ‬البهارات‭ ‬وتشرب‭ ‬المرق‭... ‬إخخخخخخ‭! ‬مجرد‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬شرب‭ ‬مرق‭ ‬الدجاج‭ ‬يصيبني‭ ‬بصداع‭ ‬واضطراب‭ ‬في‭ ‬وظائف‭ ‬الغدد‭ ‬الصماء‭ (‬هل‭ ‬هناك‭ ‬غدد‭ ‬ثرثارة‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬إعاقة؟‭).‬

فعلا‭ ‬ابن‭ ‬آدم‭ ‬‮«‬مفتري‮»‬‭.. ‬الله‭ ‬يرحم‭.. ‬في‭ ‬يوم‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نرمي‭ ‬من‭ ‬الدجاجة‭ ‬في‭ ‬القمامة‭ ‬إلا‭ ‬ريشها‭. ‬أكل‭ ‬الرغيف‭ ‬مشبعا‭ ‬بشوربة‭ ‬الدجاج‭ ‬كان‭ ‬ترفا‭ ‬لا‭ ‬نعرفه‭ ‬إلا‭ ‬بضع‭ ‬مرات‭ ‬في‭ ‬السنة،‭ ‬عندما‭ ‬يتم‭ ‬ذبح‭ ‬دجاجة‭ ‬لأنها‭ ‬أصيبت‭ ‬بعاهة‭ ‬مستديمة‭ ‬أو‭ ‬ديكا‭ ‬لأنه‭ ‬أصبح‭ ‬خنثى‭ ‬مشكل‭ ‬ونسي‭ ‬دوره‭ ‬في‭ ‬الحياة‭. ‬ثم‭ ‬صار‭ ‬الدجاج‭ ‬طعاما‭ ‬‮«‬مقرفا‮»‬،‭ ‬يوضع‭ ‬أمامنا‭ ‬فننتقي‭ ‬بعض‭ ‬أجزائه‭ ‬في‭ ‬حذر‭ ‬وكأنه‭ ‬مفخخ‭ ‬او‭ ‬ملغوم،‭ ‬ثم‭ ‬نلقي‭ ‬بمعظمه‭ ‬في‭ ‬سلة‭ ‬القمامة‭. ‬وإلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬ترى‭ ‬الدجاج‭ ‬في‭ ‬الأفلام‭ ‬المصرية‭ ‬مقرونا‭ ‬بالوجبات‭ ‬الفاخرة‭ ‬لدى‭ ‬الطبقات‭ ‬الشعبية،‭ ‬وأنا‭ ‬من‭ ‬الطبقات‭ ‬الشعبية‭ ‬ولكن‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬الخليج‭ ‬جعلني‭ ‬انتمي‭ ‬الى‭ ‬الطبقات‭ ‬‮«‬الشبعية‮»‬‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تحس‭ ‬بالشبع‭ ‬فيصيبها‭ ‬البطر‭ ‬فتنسى‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬حالها،‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬جناح‭ ‬دجاجة‭ ‬حلما‭ ‬بعيد‭ ‬المنال،‭ ‬ثم‭ ‬تهتف‭ ‬عندما‭ ‬يوضع‭ ‬أمامها‭ ‬الدجاج‭ ‬المحمر‭ ‬أو‭ ‬المشوي‭: ‬أُف‭.. ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬دجاج‭.‬

اشرب‭ ‬مرق‭ ‬الدجاج‭ ‬الطازج؟‭ ‬مستحيل،‭ ‬ولكنني‭ ‬أتناول‭ ‬مرق‭ ‬الدجاج‭ ‬المستورد‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬أصبحت‭ ‬شوربة‭ ‬الدجاج‭ ‬‮«‬ماجي‮»‬‭ ‬عنصرا‭ ‬أساسيا‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الطبخات‭! ‬الدجاج‭ ‬المطبوخ‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬يسد‭ ‬النفس‭ ‬ولكن‭ ‬دجاج‭ ‬كنتاكي‭ ‬شيء‭ ‬آخر،‭ ‬ونذهب‭ ‬إلى‭ ‬الصيدليات‭ ‬وعندما‭ ‬يمد‭ ‬لنا‭ ‬الصيدلاني‭ ‬دواء‭ ‬مصنوعا‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬عربي‭ ‬نتساءل‭ ‬باستنكار‭: ‬ألا‭ ‬يوجد‭ ‬عندك‭ ‬نوع‭ ‬محترم‭ (‬غربي‭) ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الدواء؟‭ ‬وننسى‭ ‬ان‭ ‬احتمالات‭ ‬الغش‭ ‬في‭ ‬الدواء‭ ‬العربي‭ ‬صفر،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬ان‭ ‬تلك‭ ‬الاحتمالات‭ ‬تصبح‭ ‬فيفتي‭ ‬فيفتي‭ (‬50‭%‬‭ ‬الى‭ ‬50‭%‬‭) ‬بالنسبة‭ ‬للدواء‭ ‬الغربي‭.. ‬ففي‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬يكاد‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يكون‭ ‬مغشوشا‭: ‬التاريخ‭ ‬والتنمية‭ ‬والحريات‭ ‬والمناهج‭ ‬المدرسية‭... ‬إلا‭ ‬الدواء‭! ‬على‭ ‬كل‭ ‬حال‭ ‬فأنا‭ ‬أعاني‭ ‬من‭ ‬عقدة‭ ‬مقلوبة‭ ‬تجاه‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬غربي‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬سوء‭ ‬الظن‭ ‬به‭ ‬ابتداءً‭.. ‬وعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬فإنني‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬الطبيب‭ ‬العربي‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬كفاءة‭ ‬عن‭ ‬نظيره‭ ‬الغربي‭ ‬بل‭ ‬يتفوق‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬الجانب‭ ‬الأخلاقي‭. ‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا