العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

أدب وقلة أدب الجدران

لا‭ ‬تخلو‭ ‬دورة‭ ‬مياه‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬من‭ ‬شخابيط‭ ‬وخرابيط‭ ‬سطرها‭ ‬بعض‭ ‬ضعاف‭ ‬العقول‭ ‬تعبيرا‭ ‬عن‭ ‬حرب‭ ‬او‭ ‬كره‭ ‬شيء‭ ‬او‭ ‬شخص‭ ‬ما،‭ ‬والغرافيتي‭ ‬هو‭ ‬الكتابة‭ ‬والرسم‭ ‬على‭ ‬الجدران،‭ ‬واشتهرت‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬بادئ‭ ‬الأمر‭ ‬الدول‭ ‬الغربية،‭ ‬وحاربته،‭ ‬ولكن‭ ‬شيئا‭ ‬فشيئا‭ ‬صار‭ ‬هناك‭ ‬فنانو‭ ‬غرافيتي‭ ‬محترمون،‭ ‬تتم‭ ‬الاستعانة‭ ‬بهم‭ ‬لتزيين‭ ‬جدران‭ ‬الأنفاق‭ ‬والمباني‭ ‬العامة‭ ‬كلما‭ ‬تعرضت‭ ‬للتلوث‭ ‬بسبب‭ ‬الشخبطة‭ ‬والخربطة‭ ‬واللخبطة‭ ‬التي‭ ‬يمارسها‭ ‬هواة‭ ‬يكتبون‭ ‬ويرسمون‭ ‬أشياء‭ ‬تخدش‭ ‬الحياء‭ ‬العام،‭ ‬أو‭ ‬بسبب‭ ‬قبح‭ ‬الخطوط‭ ‬والأشكال‭ ‬المكتوبة‭ ‬والمرسومة،‭ ‬أما‭ ‬عندنا‭ ‬فهناك‭ ‬أدباء‭ ‬المراحيض،‭ ‬وهي‭ ‬تلك‭ ‬الفئة‭ ‬التي‭ ‬تستعرض‭ ‬قدراتها‭ ‬الأدبية‭ ‬أو‭ ‬‮«‬قلة‭ ‬الأدبية‮»‬‭ ‬على‭ ‬جدران‭ ‬دورات‭ ‬المياه‭. ‬

وكعادتنا‭ ‬في‭ ‬التبرؤ‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬قبيح‭ ‬ونسبته‭ ‬الى‭ ‬قوى‭ ‬الاستعمار‭ ‬والاستكبار،‭ ‬فإن‭ ‬بيننا‭ ‬من‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الأجانب‭ ‬المقيمين‭ ‬بين‭ ‬ظهرانينا‭ ‬نقلوا‭ ‬إلينا‭ ‬تلك‭ ‬الممارسة‭ ‬‮«‬الوسخة‮»‬،‭ ‬بينما‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬هي‭ ‬أنه‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬شعب‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الأرض‭ ‬إلا‭ ‬مارس‭ ‬بعض‭ ‬أفراده‭ ‬أدب‭ ‬الجدران‭/ ‬المراحيض‭.‬

تتفشى‭ ‬تلك‭ ‬الظاهرة‭ ‬التي‭ ‬يسمونها‭ ‬‮«‬الغرافيتي‮»‬‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الدول‭ ‬الغربية،‭ ‬بل‭ ‬هناك‭ ‬دار‭ ‬نشر‭ ‬بريطانية‭ ‬معروفة‭ ‬تجمع‭ ‬ما‭ ‬يكتب‭ ‬في‭ ‬دورات‭ ‬المياه‭ ‬وغيرها،‭ ‬وتصدره‭ ‬في‭ ‬سلسلة‭ ‬كتب‭ ‬شديدة‭ ‬الرواج،‭ ‬ولكن‭ ‬شيوع‭ ‬تلك‭ ‬الظاهرة‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬أو‭ ‬الغرب‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أنها‭ ‬‮«‬طبيعية‮»‬‭! ‬وما‭ ‬هو‭ ‬غير‭ ‬طبيعي‭ ‬تماما‭ ‬هو‭ ‬ان‭ ‬يكتب‭ ‬شخص‭ ‬ما‭ ‬اسمه‭ ‬كاملا‭ ‬في‭ ‬مرحاض‭ ‬كي‭ ‬‮«‬يتذكره‮»‬‭ ‬الآخرون،‭ ‬وفي‭ ‬دورات‭ ‬المياه‭ ‬في‭ ‬المطارات‭ ‬تجد‭ ‬مثلا‭ ‬عبارات‭ ‬من‭ ‬شاكلة‭: ‬حسنون‭ ‬يانسون‭ ‬المغفلي‭... ‬مسافر‭ ‬ترانزيت‭ ‬عبر‭ ‬المنامة‭ ‬إلى‭ ‬قبرص‭!! ‬هب‭ ‬أنني‭ ‬تذكرتك‭ ‬يا‭ ‬حسنون،‭ ‬وهب‭ ‬أنني‭ ‬التقيت‭ ‬بك‭ ‬وعرفت‭ ‬أنك‭ ‬صاحب‭ ‬العبارة‭ ‬المكتوبة‭ ‬في‭ ‬مرحاض‭ ‬في‭ ‬مطار‭ ‬المنامة‭! ‬هل‭ ‬سيسعدك‭ ‬أن‭ ‬أقول‭: ‬يا‭ ‬لمحاسن‭ ‬الصدف،‭... ‬إنت‭ ‬حسنون‭ ‬تبع‭ ‬الدبليو‭ ‬سي‭ ‬العطلان‭... ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬تكتب‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬نيوزويك‭ ‬طالما‭ ‬إنك‭ ‬‮«‬كاتب‭ ‬مشهور»؟

ويبلغ‭ ‬انحطاط‭ ‬الذوق‭ ‬بالبعض‭ ‬أنهم‭ ‬يكتبون‭ ‬عبارات‭ ‬تمجد‭ ‬أندية‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬التي‭ ‬يشجعونها‭ ‬على‭ ‬جدران‭ ‬المراحيض‭!! ‬كيف‭ ‬يربط‭ ‬الإنسان‭ ‬بين‭ ‬شيء‭ ‬يحبه‭ ‬ومكان‭ ‬ارتبط‭ ‬بالقاذورات‭ ‬والأمراض؟‭ ‬الإنسان‭ ‬السوي‭ ‬يحرص‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬استخدام‭ ‬أي‭ ‬دورة‭ ‬مياه‭ ‬عامة‭ ‬حتى‭ ‬للأغراض‭ ‬التي‭ ‬خصصت‭ ‬لها،‭ ‬فكيف‭ ‬يطيق‭ ‬إنسان‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬نصف‭ ‬عاقل‭ ‬أن‭ ‬يدخل‭ ‬مرحاضا‭ ‬وهو‭ ‬مزود‭ ‬بقلم‭ ‬ذي‭ ‬رأس‭ ‬غليظ‭ ‬لتسجيل‭ ‬خواطره؟‭ ‬والأدهى‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬أدباء‭ ‬المراحيض،‭ ‬يستمدون‭ ‬مفرداتهم‭ ‬من‭ ‬شبكة‭ ‬الأنابيب‭ ‬التي‭ ‬تنقل‭ ‬محتويات‭ ‬المراحيض،‭ ‬ويتفننون‭ ‬في‭ ‬رص‭ ‬الألفاظ‭ ‬التي‭ ‬تعكس‭ ‬وساخة‭ ‬عقولهم،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬بعضهم‭ ‬يعرض‭ ‬سير‭ ‬وأعراض‭ ‬الآخرين‭ ‬على‭ ‬الجدران‭. (‬الجمل‭ ‬الأربع‭ ‬الأخيرة‭ ‬منقولة‭ ‬عن‭ ‬مقال‭ ‬لضابط‭ ‬شرطة‭ ‬سعودي‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬اسمه‭ ‬في‭ ‬القصاصة‭ ‬التي‭ ‬أمامي‭ ‬الآن‭).‬

عندنا‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬يستخدم‭ ‬البعض‭ ‬جدران‭ ‬عربات‭ ‬القطارات‭ ‬لتسجيل‭ ‬أسمائهم‭ ‬كي‭ ‬تحفظها‭ ‬الأجيال‭ ‬المقبلة،‭ ‬ووجدت‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬عبارة‭: ‬سعيد‭ ‬العفن‭... ‬منقول‭ ‬من‭ ‬سجن‭ ‬عطبرة‭ ‬إلى‭ ‬سجن‭ ‬بورتسودان‭.. ‬اذكرونا‭ ‬فالذكرى‭ ‬ناقوس‭ ‬يدق‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬النسيان‭.. ‬اذكرونا‭ ‬فالذكرى‭ ‬عمر‭ ‬ثان‭! ‬أذكرك‭ ‬بالخير‭ ‬‮«‬مثلا»؟‭ ‬ثم‭ ‬ليش‭ ‬أذكرك‭ ‬وماذا‭ ‬تستفيد‭ ‬يا‭ ‬عفن‭ ‬من‭ ‬تذكري‭ ‬لاسمك‭ ‬المقرف؟

تذكرت‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الرسائل‭ ‬العصرية‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬رائجا‭ ‬في‭ ‬الستينيات‭ ‬والسبعينيات،‭ ‬وكان‭ ‬أنصاف‭ ‬المتعلمين‭ ‬ينقلون‭ ‬عنه‭ ‬نصوص‭ ‬الرسائل‭ ‬بحسب‭ ‬مقتضى‭ ‬الحال،‭ ‬وكانت‭ ‬أكثر‭ ‬أقسامه‭ ‬‮«‬شعبية‮»‬‭ ‬تلك‭ ‬المتعلقة‭ ‬بـ«الحب‮»‬،‭ ‬وكم‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬ضبطت‭ ‬أحد‭ ‬معارفي‭ ‬ينقل‭ ‬نصا‭ ‬كاملا‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬الكتاب‭ ‬الركيك‭ ‬ليخاطب‭ ‬حبيبته‭: ‬أشتاق‭ ‬إليك‭ ‬اشتياق‭ ‬الصائم‭ ‬للمغيب‭ ‬والمريض‭ ‬للطبيب‭ ‬والفنادق‭ ‬للغريب،‭ ‬وقد‭ ‬حماني‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الكتاب‭ ‬لأنني‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬فتاة‭ ‬تحبني‭ ‬على‭ ‬عهد‭ ‬المراهقة‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬بعدها،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الله‭ ‬أكرمني‭ ‬بعدم‭ ‬الهوس‭ ‬بتشجيع‭ ‬أي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الرياضة‭ ‬فلا‭ ‬أتعصب‭ ‬لفريق،‭ ‬وعصمني‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬عن‭ ‬ممارسة‭ ‬أدب‭ ‬الجدران،‭ ‬والهتاف‭ ‬بحياة‭ ‬هذا‭ ‬النادي‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭ ‬وانسحب‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬مجال‭ ‬السياسة،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬لي‭ ‬الهتاف‭ ‬بحياة‭ ‬أي‭ ‬زعيم‭!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا