العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

أريد المستقبل الآن

كانت‭ ‬أعز‭ ‬أمنية‭ ‬عندي‭ ‬في‭ ‬صباي،‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬سائق‭ ‬لوري‭ (‬شاحنة‭ ‬وبما‭ ‬ان‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬العربات‭ ‬جاء‭ ‬الى‭ ‬السودان‭ ‬إبان‭ ‬الحكم‭ ‬البريطاني‭ ‬فقد‭ ‬صار‭ ‬اسمها‭ ‬بالإنجليزية‭ ‬ساريا‭ ‬الى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬اللوري‭ ‬وهو‭ ‬مستطيل‭ ‬حديدي‭ ‬فوق‭ ‬أربعة‭ ‬إطارات،‭ ‬يسير‭ ‬بسرعة‭ ‬مذهلة‭ ‬شيئا‭ ‬مذهلا‭ ‬لي‭ ‬كقروي‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬جزيرة‭ ‬نيلية‭. ‬وعلى‭ ‬أيامنا‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬كان‭ ‬‮«‬الإنشاء‮»‬‭ ‬نشاطا‭ ‬يبرع‭ ‬فيه‭ ‬أقلية‭ ‬من‭ ‬الطلاب،‭ ‬وكانت‭ ‬مواضيع‭ ‬الإنشاء‭ ‬هي،‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬المحيط‭ ‬إلى‭ ‬الخليج‭: ‬ماذا‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬في‭ ‬المستقبل؟‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬النفوس‭ ‬كبارا‭ ‬تعبت‭ ‬في‭ ‬مرادها‭ ‬الأجسام،‭.. ‬كيف‭ ‬قضيت‭ ‬عطلتك‭ ‬الصيفية؟‭ ‬ماذا‭ ‬تفعل‭ ‬لو‭ ‬هبطت‭ ‬عليك‭ ‬ثروة‭ ‬ضخمة؟‭ ‬‮«‬وطني‭ ‬لو‭ ‬شغلت‭ ‬بالخلد‭ ‬عنه‭ / ‬نازعتني‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬الخلد‭ ‬نفسي‭.. ‬ناقش‮»‬‭ ‬‭ ‬جملة‭ ‬اعتراضية‭: ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬لا‭ ‬يستحق‭ ‬ما‭ ‬يتمتع‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬رواج،‭ ‬لأنه‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬القائل‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬جنة‭ ‬الخلد،‭ ‬لظل‭ ‬يحنّ‭ ‬ويشتاق‭ ‬الى‭ ‬الوطن،‭ ‬فهل‭ ‬بذمتكم‭ ‬هناك‭ ‬وطن‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بالعالم‭ ‬العربي‭ ‬حتى‭ ‬الخالي‭ ‬من‭ ‬الشبيحة‭ ‬وداعش،‭ ‬يستحق‭ ‬أن‭ ‬يحن‭ ‬إليه‭ ‬شخص‭ ‬وجد‭ ‬فرصة‭ ‬الإقامة‭ ‬في‭ ‬‮«‬السور‭ ‬الخارجي‮»‬‭ ‬لجنة‭ ‬الخلد؟

كان‭ ‬الطالب‭ ‬الذي‭ ‬يحصل‭ ‬على‭ ‬تقدير‭ ‬‮«‬ممتاز‮»‬‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يحسن‭ ‬استخدام‭ ‬المعلبات‭ ‬من‭ ‬محسنات‭ ‬بديعية‭ ‬مجاراة‭ ‬لابن‭ ‬العميد‭ ‬أو‭ ‬ابن‭ ‬النقيب‭ ‬أو‭ ‬ابن‭ ‬وكيل‭ ‬العريف‭! ‬وفجأة‭ ‬صار‭ ‬الإنشاء‭ ‬نشاطا‭ ‬للكبار،‭ ‬وصارت‭ ‬العواصم‭ ‬العربية‭ ‬تتبارى‭ ‬لعقد‭ ‬منافسات‭ ‬في‭ ‬الإنشاء‭ ‬يشارك‭ ‬فيها‭ ‬الكبار‭ ‬جدا،‭ ‬وبنفس‭ ‬طريقة‭ ‬المدارس‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬فيها‭ ‬مواضيع‭ ‬الإنشاء‭ ‬ثابتة‭ ‬ومكررة‭ ‬منذ‭ ‬بدء‭ ‬التعليم‭ ‬النظامي،‭ ‬فإن‭ ‬الكبار‭ ‬يشاركون‭ ‬في‭ ‬مسابقات‭ ‬‮«‬إنشاء‮»‬‭ ‬عناوينها‭ ‬واحدة‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬تنوعت‭ ‬واختلفت‭ ‬مفرداتها،‭ ‬وحتى‭ ‬لو‭ ‬عقدت‭ ‬تحت‭ ‬مسميات‭ ‬تجنن‭ ‬وتهبل‭ ‬مثل‭ ‬منتدى‭ ‬ومؤتمر‭ ‬ومنبر‭ ‬وورشة‭ ‬عمل،‭ ‬والصرعة‭ ‬في‭ ‬منافسات‭ ‬الإنشاء‭ ‬التي‭ ‬تنظمها‭ ‬مختلف‭ ‬العواصم‭ ‬العربية‭ ‬هي‭ ‬‮«‬استشراف‭ ‬المستقبل‭ ‬العربي‮»‬،‭ ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬الكلمة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬أوكسيمورون‭ ‬oxymoron‭ ‬تقفز‭ ‬إلى‭ ‬الذهن‭ (‬تعني‭ ‬الجمع‭ ‬بين‭ ‬معنيين‭ ‬متناقضين‭): ‬المستقبل‭.. ‬العربي؟‭ ‬ما‭ ‬يصير‭! ‬كيف‭ ‬يجتمع‭ ‬النقيضان؟‭ ‬والمثل‭ ‬الخليجي‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬اللي‭ ‬ما‭ ‬له‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬له‭ ‬تالي‮»‬،‭ ‬يعني‭ ‬اللي‭ ‬ما‭ ‬له‭ ‬حاضر‭ ‬ما‭ ‬له‭ ‬مستقبل،‭ ‬ودعامات‭ ‬وأسس‭ ‬المستقبل‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬متوافرة‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الراهن‭ ‬والحاضر،‭ ‬وإلا‭ ‬سنظل‭ ‬كما‭ ‬نحن‭ ‬نعيش‭ ‬على‭ ‬ذكريات‭ ‬الماضي‭ ‬‮«‬التليد‮»‬،‭ ‬والمستقبل‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬بنى‭ ‬أساسية‭: ‬علم‭ ‬وتنوير‭ ‬وخطط‭ ‬ونشاط‭ ‬جماعي،‭ ‬ومن‭ ‬حاضره‭ ‬تعس‭ ‬بائس،‭ ‬فإن‭ ‬مستقبله‭ ‬سيكون‭ ‬أكثر‭ ‬تعاسة‭ ‬وبؤسا‭! ‬باختصار‭ ‬لا‭ ‬أرى‭ ‬داعيا‭ ‬للحديث‭ ‬عن‭ ‬المستقبل‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المنابر‭ ‬العامة‭ ‬أو‭ ‬الخاصة،‭ ‬وشخصيا‭ ‬لست‭ ‬معنيا‭ ‬بالمستقبل‭ ‬وأعرف‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬المواطنين‭ ‬العرب‭ ‬لا‭ ‬يشغلون‭ ‬أنفسهم‭ ‬به،‭ ‬وما‭ ‬يهمني‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬أشعر‭ ‬أنا‭ ‬ومن‭ ‬حولي‭ ‬بالأمن‭ ‬والأمان‭ ‬وراحة‭ ‬البال،‭ ‬وأن‭ ‬نحصل‭ ‬على‭ ‬نصيب‭ ‬طيب‭ ‬من‭ ‬التعليم‭ ‬والرعاية‭ ‬الصحية،‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬لنا‭ ‬كلمة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شأن‭ ‬يخصنا‭. ‬ونريد‭ ‬ذلك‭ ‬الآن،‭ ‬والمسألة‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬ندوات‭ ‬ومحاضرات،‭ ‬ولو‭ ‬ضمنا‭ ‬تلك‭ ‬الأشياء‭ ‬فسنضمن‭ ‬أن‭ ‬مستقبلنا‭ ‬سيكون‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬حاضرنا‭!‬

دعونا‭ ‬نطرح‭ ‬الأمر‭ ‬بشكل‭ ‬مبسط‭: ‬هنالك‭ ‬عائلة‭ ‬تتألف‭ ‬من‭ ‬زوج‭ ‬وزوجة‭ ‬وبعض‭ ‬العيال،‭ ‬والزوج‭ ‬متسلط‭ ‬أو‭ ‬مستهتر‭ ‬أو‭ ‬يتسم‭ ‬باللامبالاة،‭ ‬وطلباته‭ ‬أوامر‭ ‬وكلامه‭ ‬‮«‬ماشي‮»‬‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬خطأ،‭ ‬ويا‭ ‬ويل‭ ‬من‭ ‬يتجرأ‭ ‬بالاعتراض‭ ‬على‭ ‬كلامه‭. ‬ما‭ ‬مستقبل‭ ‬عائلة‭ ‬كهذه؟‭ ‬قد‭ ‬ينشأ‭ ‬الأولاد‭ ‬على‭ ‬شاكلته‭ ‬ويجارونه‭ ‬في‭ ‬الفظاظة‭ ‬والغلظة‭ ‬عندما‭ ‬تصبح‭ ‬لهم‭ ‬زوجات‭ ‬وعيال‭. ‬وقد‭ ‬يكبرون‭ ‬ويتمردون‭ ‬على‭ ‬الأب‭ ‬ويجنحون‭ ‬بالهرب‭ ‬إلى‭ ‬دنيا‭ ‬المخدرات،‭ ‬والزوجة‭ ‬نفسها‭ ‬قد‭ ‬تجنح‭ ‬وقد‭ ‬تتمرد‭ ‬خاصة‭ ‬إذا‭ ‬لمست‭ ‬فيه‭ ‬ضعفا‭. ‬والتمرد‭ ‬ليس‭ ‬بالضرورة‭ ‬عملا‭ ‬محمودا،‭ ‬فيا‭ ‬ما‭ ‬تمرد‭ ‬أفراد‭ ‬وجماعات‭ ‬وانساقوا‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الطريق‭ ‬الذي‭ ‬خرجوا‭ ‬عليه‭. ‬

ارحمونا‭ ‬من‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬المستقبل‭ ‬والأجيال‭ ‬الصاعدة،‭ ‬لأنكم‭ ‬تعرفون‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الأجيال‭ ‬بدأت‭ ‬سلفا‭ ‬في‭ ‬‮«‬الهبوط‮»‬‭ ‬والانحدار‭. ‬أريد‭ ‬خبزا‭ ‬وسقفا‭ ‬يستند‭ ‬إلى‭ ‬جدران‭ ‬غير‭ ‬آيلة‭ ‬للسقوط،‭ ‬وكتابا‭ ‬وجريدة‭ ‬وطبيبا‭ ‬يستقبلني‭ ‬لأنني‭ ‬آدمي‭ ‬وليس‭ ‬لأنني‭ ‬ولد‭ ‬فلان،‭ ‬وأريد‭ ‬شرطيا‭ ‬يعطيني‭ ‬الإحساس‭ ‬بالأمان،‭ ‬وليس‭ ‬الخوف‭ ‬عندما‭ ‬يكون‭ ‬قريبا‭ ‬مني،‭ ‬فهل‭ ‬هذه‭ ‬أمور‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬ندوات‭ ‬ومنتديات؟

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا