العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عن البسمة وتكشيرتي المجدية

عدت‭ ‬يوم‭ ‬الخميس‭ ‬الماضي‭ ‬من‭ ‬جمهورية‭ ‬جورجيا‭ ‬حيث‭ ‬قضيت‭ ‬أياما‭ ‬في‭ ‬قمة‭ ‬الامتاع،‭ ‬فجورجيا‭ ‬بلد‭ ‬حباها‭ ‬الله‭ ‬بطبيعة‭ ‬خلابة،‭ ‬فجبالها‭ ‬ووديانها‭ ‬‮«‬تجنن‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬الانسان‭ ‬الجورجي‭ ‬معصوم‭ ‬من‭ ‬الابتسام،‭ ‬يعني‭ ‬عموما‭ ‬هم‭ ‬قوم‭ ‬متجهمون‭ ‬كما‭ ‬جيرانهم‭ ‬الروس،‭ ‬والابتسام‭ ‬أقصر‭ ‬طريق‭ ‬للقلوب،‭ ‬ولهذا‭ ‬وفي‭ ‬سياق‭ ‬استعداداتها‭ ‬لاستضافة‭ ‬الألعاب‭ ‬الأولمبية‭ ‬في‭ ‬سبتمبر‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬الماضي،‭ ‬انتبهت‭ ‬الصين‭ ‬لأمر‭ ‬حيوي‭ ‬وضروري‭: ‬تدريب‭ ‬مئات‭ ‬الفتيات‭ ‬على‭ ‬الانحناء‭ ‬والابتسام‭ ‬بطريقة‭ ‬معينة‭ ‬أثناء‭ ‬تقديم‭ ‬الميداليات‭ ‬للفائزين‭. ‬هذه‭ ‬شغلانة‭ ‬تفرغ‭ ‬لها‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الخبراء‭ ‬فالابتسامة‭ ‬ينبغي‭ ‬ان‭ ‬تكون‭ ‬بمواصفات‭ ‬معينة‭. ‬في‭ ‬اليابان‭ ‬هناك‭ ‬إلزام‭ ‬للنساء‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬الابتسام‭ ‬على‭ ‬الدوام،‭ ‬ولكن‭ ‬علماء‭ ‬نفسانيين‭ ‬لاحظوا‭ ‬أن‭ ‬الابتسامة‭ ‬البلاستيكية‭ (‬المصطنعة‭) ‬صارت‭ ‬مرضا،‭ ‬حيث‭ ‬صارت‭ ‬ملايين‭ ‬النساء‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬ابتسام‭ ‬مستمر‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬المواقف‭ ‬التي‭ ‬تتطلب‭ ‬التجهم‭ ‬والحزن‭. ‬يقترب‭ ‬شاب‭ ‬قليل‭ ‬الحياء‭ ‬من‭ ‬امرأة‭ ‬يابانية‭ ‬ويربت‭ ‬على‭ ‬كتفها‭ ‬ثم‭ ‬يقول‭ ‬بكل‭ ‬وقاحة‭ ‬وصفاقة‭: ‬يا‭ ‬كوتوموتو‭ ‬أنا‭ ‬كل‭ ‬صباح‭ ‬‮«‬يموتو‮»‬‭ ‬في‭ ‬دباديبكو‭. ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ترافقيني‭ ‬إلى‭ ‬بيتكو‭. ‬فتواجهه‭ ‬بابتسامة‭ ‬عريضة‭ ‬وتقول‭ ‬له‭: ‬أنا‭ ‬بنت‭ ‬ناسكو‭ ‬ومش‭ ‬صايعة‭ ‬مثلكو‭. ‬موقف‭ ‬كهذا‭ ‬يستوجب‭ ‬من‭ ‬امرأة‭ ‬عاقلة‭ ‬أن‭ ‬تصفع‭ ‬الشاب‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬أو‭ ‬تبصق‭ ‬عليه‭ ‬ولكن‭ ‬الابتسام‭ ‬المتكلف‭ ‬صار‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬شخصية‭ ‬المرأة‭ ‬اليابانية،‭ ‬ويقول‭ ‬البروفسور‭ ‬ماكوتو‭ ‬ناستومي‭ ‬أستاذ‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬أوساكا‭ ‬اليابانية‭ ‬إن‭ ‬‮«‬قناع‭ ‬الابتسام‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬ترتديه‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬بلاده‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬السنة‭ ‬صار‭ ‬يخفي‭ ‬وراءه‭ ‬اضطرابات‭ ‬نفسية‭ ‬عميقة،‭ ‬وأن‭ ‬الاكتئاب‭ ‬متفش‭ ‬وبائيا‭ ‬بين‭ ‬النساء‭ ‬اليابانيات‭ ‬بسبب‭ ‬الابتسام‭ ‬القسري‭. ‬وأن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬الباسمات‭ ‬بسبب‭ ‬وبدون‭ ‬سبب‭ ‬صرن‭ ‬يعانين‭ ‬من‭ ‬آلام‭ ‬في‭ ‬عضلات‭ ‬الوجه‭ ‬وحالات‭ ‬صداع‭ ‬مؤلمة‭.‬

إذا‭ ‬كنت‭ ‬مجبرا‭ ‬على‭ ‬الابتسام‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬المواقف‭ ‬التي‭ ‬تتطلب‭ ‬الحزم‭ ‬والغضب‭ ‬بدواعي‭ ‬‮«‬أكل‭ ‬العيش‮»‬‭ ‬أو‭ ‬باسم‭ ‬التهذيب‭ ‬فإنك‭ ‬تكون‭ ‬تبعا‭ ‬لذلك‭ ‬مجبرا‭ ‬على‭ ‬‮«‬تعليب‮»‬‭ ‬مشاعرك‭ ‬الحقيقية‭ ‬bottling‭ ‬up‭ ‬والإنسان‭ ‬الذي‭ ‬يميل‭ ‬إلى‭ ‬التمثيل‭ ‬فيخفي‭ ‬غضبه‭ ‬وحزنه‭ ‬يكون‭ ‬أكثر‭ ‬عرضة‭ ‬للانكسار‭ ‬النفسي‭. ‬مثلا،‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬العرب‭ ‬يحسبون‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬العيب‭ ‬أن‭ ‬يراهم‭ ‬الآخرون‭ ‬وهم‭ ‬يبكون‭. ‬يفقد‭ ‬الواحد‭ ‬منهم‭ ‬أعز‭ ‬الناس‭ ‬لديه‭ ‬بالموت،‭ ‬ولكن‭ ‬وبسبب‭ ‬البرمجة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬تفترض‭ ‬أن‭ ‬‮«‬المرجلة‭/‬الرجولة‮»‬‭ ‬هي‭ ‬ألا‭ ‬تظهر‭ ‬ضعفك‭ ‬الإنساني‭ ‬الطبيعي‭. ‬يكبت‭ ‬الرجال‭ ‬مشاعر‭ ‬الحزن‭ ‬حتى‭ ‬تتحول‭ ‬الى‭ ‬سوس‭ ‬ينخر‭ ‬في‭ ‬عافيتهم‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬سنوات‭. ‬وبالمناسبة‭ ‬فإنني‭ ‬فخور‭ ‬بأنني‭ ‬شأن‭ ‬معظم‭ ‬الرجال‭ ‬السودانيين‭ ‬دموعي‭ ‬‮«‬حاضرة‮»‬‭. ‬الرجل‭ ‬السوداني‭ ‬يبكي‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬الحزن‭ ‬الشديد‭ ‬والفرح‭ ‬الشديد‭. ‬وعندنا‭ ‬في‭ ‬المآتم‭ ‬يحتضن‭ ‬الرجال‭ ‬أمهاتهم‭ ‬واخواتهم‭ ‬وزوجاتهم‭ ‬ويبكون‭ ‬أمام‭ ‬الآخرين‭. ‬فليس‭ ‬عندنا‭ ‬‮«‬تمثيل‮»‬‭ ‬ولا‭ ‬نخفي‭ ‬أو‭ ‬نكبت‭ ‬عواطفنا‭. ‬العيب‭ ‬عندنا‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬‮«‬العويل‮»‬‭ ‬الرجالي‭.‬

قلبي‭ ‬على‭ ‬مضيفي‭ ‬ومضيفات‭ ‬الطائرات‭ ‬الذين‭ ‬يتعين‭ ‬عليهم‭ ‬الابتسام‭ ‬حتى‭ ‬وهم‭ ‬يعرفون‭ ‬أن‭ ‬ثلاثة‭ ‬من‭ ‬محركات‭ ‬الطائرة‭ ‬توقفت‭. ‬يبتسمون‭ ‬للراكب‭ ‬الذي‭ ‬ينادي‭ ‬الواحد‭ ‬منهم‭: ‬يا‭ ‬ولد‭.. ‬يا‭ ‬بنت‭.. ‬شيل‭ ‬الزفت‭ ‬هذا‭ ‬وجيب‭ ‬شيء‭ ‬غيره‭.. ‬يعاتبني‭ ‬كثيرون‭ ‬عندما‭ ‬انفجر‭ ‬غاضبا‭: ‬عيب‭ ‬شخص‭ ‬بشوش‭ ‬مثلك‭ ‬يفقد‭ ‬أعصابه‭. ‬وردي‭: ‬من‭ ‬الخير‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أفقد‭ ‬أعصابي‭ ‬في‭ ‬المواقف‭ ‬التي‭ ‬تسبب‭ ‬فقدان‭ ‬الأعصاب‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أهش‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬من‭ ‬يسيء‭ ‬إلي‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬جارح‭. ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أحب‭ ‬المتجهمين‭ ‬والنكديين‭ ‬ولكنني‭ ‬بنفس‭ ‬القدر‭ ‬لا‭ ‬أحب‭ ‬من‭ ‬يلاقونني‭ ‬بابتسامة‭ ‬مرسومة‭ ‬بالكتالوج‭. ‬كنت‭ ‬أدفع‭ ‬حسابي‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬فندق‭ ‬عندما‭ ‬وجدت‭ ‬في‭ ‬الفاتورة‭ ‬أنني‭ ‬شربت‭ ‬كل‭ ‬مخزونهم‭ ‬من‭ ‬الخمور‭. ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬فمي‭ ‬ألفاظ‭ ‬أخجل‭ ‬من‭ ‬إيرادها‭ ‬هنا،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬جعلني‭ ‬أرمي‭ ‬شنطتي‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬المدير‭ ‬المناوب‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬جاءني‭ ‬مبتسما‭: ‬خلاص‭ ‬يا‭ ‬استاذ‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬شربتها‭ ‬خليها‭ ‬علينا‭. ‬قلت‭ ‬له‭: ‬تبتسم‭ ‬على‭ ‬ماذا‭ ‬يا‭ ‬أبله؟‭ ‬عندك‭ ‬موظف‭ ‬حرامي‭ ‬وعديم‭ ‬ضمير‭ ‬ويفترض‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬أعلى‭ ‬درجات‭ ‬الغضب‭ ‬منه‭ ‬أو‭ ‬مني‭ (‬بوصفي‭ ‬سكيرا‭ ‬مستهبلا‭).. ‬تلك‭ ‬كانت‭ ‬غضبة‭ ‬ذات‭ ‬عائد‭ ‬مادي‭.. ‬جاء‭ ‬المدير‭ ‬الكبير‭ ‬وأقسم‭ ‬بالله‭ ‬أن‭ ‬يعاقب‭ ‬الموظف‭ ‬الذي‭ ‬أعد‭ ‬الفاتورة‭.. ‬ثم‭ ‬أعطاني‭ ‬خصما‭ ‬50%‭ ‬من‭ ‬كلفة‭ ‬الإقامة‭ ‬في‭ ‬الفندق‭.. ‬يعني‭ ‬التكشيرة‭ ‬أفيد‭ ‬من‭ ‬الابتسام‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المواقف‭!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا