العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

الخيار المُر

أعربت‭ ‬كثيرا‭ ‬في‭ ‬مقالاتي‭ ‬هنا،‭ ‬عن‭ ‬استيائي‭ ‬من‭ ‬النظام‭ ‬التعليمي‭ ‬العربي،‭ ‬وأن‭ ‬ذلك‭ ‬الاستياء‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬حملني‭ ‬مُكرها‭ ‬على‭ ‬إلحاق‭ ‬عيالي‭ ‬بمدارس‭ ‬تلتزم‭ ‬بالمناهج‭ ‬البريطانية‭ ‬فرض‭ ‬عين،‭ ‬وإلحاق‭ ‬أذى‭ ‬جسيم‭ ‬لمواردي‭ ‬المالية،‭ ‬ثم‭ ‬ذهبت‭ ‬بهم‭ ‬الى‭ ‬بريطانيا‭ ‬يوم‭ ‬التحقت‭ ‬بهيئة‭ ‬بي‭ ‬بي‭ ‬سي‭ ‬للبث،‭ ‬ومن‭ ‬إيجابيات‭ ‬ذلك،‭ ‬أن‭ ‬البريطانيين‭ ‬قفزوا‭ ‬بكل‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬عيالي‭ ‬عاما‭ ‬أو‭ ‬عامين‭ ‬دراسيين‭ ‬كاملين‭ ‬الى‭ ‬الأمام،‭ ‬وهكذا‭ ‬كانت‭ ‬لي‭ ‬بنت‭ ‬دخلت‭ ‬الجامعة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تبلغ‭ ‬السادسة‭ ‬عشرة،‭ ‬ولا‭ ‬يعني‭ ‬هذا‭ ‬أنها‭ ‬عبقرية‭ (‬مثل‭ ‬أبيها‭)‬،‭ ‬بل‭ ‬بكل‭ ‬بساطة‭ ‬أنها‭ ‬درست‭ ‬ضمن‭ ‬نظام‭ ‬لا‭ ‬يحسب‭ ‬عمر‭ ‬التلاميذ‭ ‬بالساعة‭ ‬والدقيقة‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬الحكومية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭: ‬ابنك‭ ‬مولود‭ ‬شهر‭ ‬كم؟‭ ‬سبتمبر؟‭ ‬عظيم‭.... ‬يعني‭ ‬عمره‭ ‬6‭ ‬سنوات‭ ‬بالضبط‭ ‬ومن‭ ‬حقه‭ ‬أن‭ ‬يلتحق‭ ‬بالمدرسة‭... ‬لحظة‭ ‬لو‭ ‬سمحت‭ ‬يوم‭ ‬كم‭ ‬في‭ ‬سبتمبر؟‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬سبتمبر؟‭ ‬يعني‭ ‬زي‭ ‬أبو‭ ‬الجعافر‭ ‬وانقلاب‭ ‬مزمجر‭ ‬القذافي‭ ‬في‭ ‬ليبيا؟‭ ‬ما‭ ‬شاء‭ ‬الله‭ ‬يعني‭ ‬عمره‭ ‬بالضبط‭ ‬6‭ ‬سنوات‭! ‬هات‭ ‬بطاقتك‭ ‬الشخصية‭.. ‬يا‭ ‬هلا‭.. ‬شهادة‭ ‬ميلاد‭ ‬الولد‭ ‬لو‭ ‬سمحت‭.. ‬عفوا‭ ‬الشهادة‭ ‬لا‭ ‬تحدد‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬ساعة‭ ‬من‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬سبتمبر‭ ‬شرف‭ ‬الولد‭!! ‬مولود‭ ‬الساعة‭ ‬11مساء؟‭ ‬خذ‭ ‬أوراقك‭ ‬هذه‭ ‬ولا‭ ‬تضيع‭ ‬وقتي،‭ ‬فنحن‭ ‬لا‭ ‬نقبل‭ ‬أي‭ ‬شخص‭ ‬مولود‭ ‬بعد‭ ‬العاشرة‭ ‬والنصف‭ ‬من‭ ‬مساء‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬سبتمبر‭!! ‬ولا‭ ‬تجينا‭ ‬السنة‭ ‬الجاية‭... ‬لأن‭ ‬الولد‭ ‬بيكون‭ ‬فوق‭ ‬السن‭ ‬القانونية‭ ‬وما‭ ‬لك‭ ‬حل‭ ‬إلا‭ ‬تسجله‭ ‬في‭ ‬تعليم‭ ‬الكبار‭!! ‬يلاَّ‭ ‬بره‭!‬

أرحت‭ ‬نفسي‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬السخافات‭ ‬وبحمد‭ ‬الله‭ ‬‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الأعباء‭ ‬المالية‭ ‬المهولة‭ ‬لإلحاق‭ ‬العيال‭ ‬بالمنهج‭ ‬البريطاني،‭ ‬فعيالي‭ ‬الأربعة‭ ‬سبقوا‭ ‬من‭ ‬هم‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬أعمارهم‭ ‬بعامين‭ ‬دراسيين‭!! ‬لا‭ ‬أقول‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬التباهي،‭ ‬فلست‭ ‬صاحب‭ ‬ذلك‭ ‬القرار،‭ ‬ولكن‭ ‬لتبيان‭ ‬الفرق‭ ‬بين‭ ‬عقليتين‭: ‬إحداهما‭ ‬تحكم‭ ‬على‭ ‬الطفل‭ ‬بقدراته‭ ‬وتفتح‭ ‬أمامه‭ ‬كافة‭ ‬الأبواب،‭ ‬والأخرى‭ ‬تحكم‭ ‬عليه‭ ‬بطوله‭ ‬وعرضه‭ ‬واسم‭ ‬عائلته‭ ‬ثم‭ ‬توصد‭ ‬الأبواب‭ ‬في‭ ‬وجهه‭ ‬باسم‭ ‬اللوائح‭ ‬التي‭ ‬تعلو‭ ‬على‭ ‬الاعتبارات‭ ‬التربوية‭ ‬والإنسانية‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬ولكن‭ ‬وبصراحة‭ ‬شديدة‭ ‬فإنني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬سعيداً‭ ‬بوجود‭ ‬عيالي‭ ‬وهم‭ ‬إفريقيو‭ ‬الهوية‭ ‬وعربيو‭ ‬الهوى،‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬أكاديمية‭ ‬تسقيهم‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬ثقافة‭ ‬غربية،‭ ‬لا‭ ‬أقصد‭ ‬أنهم‭ ‬يكتسبون‭ ‬عادات‭ ‬البريطانيين‭ ‬وسلوكياتهم،‭ ‬بحكم‭ ‬أنهم‭ ‬يدرسون‭ ‬مناهجهم،‭ ‬ولست‭ ‬ممن‭ ‬يؤمنون‭ ‬بأن‭ ‬التربية‭ ‬القويمة‭ ‬هي‭ ‬مهمة‭ ‬المدرسة‭! ‬بل‭ ‬أعرف‭ ‬تماما‭ ‬أن‭ ‬تربية‭ ‬طفلي‭ ‬وغرس‭ ‬القيم‭ ‬فيه‭ ‬مهمتنا‭ ‬أنا‭ ‬وأمه،‭ ‬ومرحباً‭ ‬بأي‭ ‬زيادة‭ ‬خير‭ ‬تأتي‭ ‬عن‭ ‬الطريق‭ ‬المدرسة،‭ ‬والمدرسة‭ ‬البريطانية‭ ‬تغرس‭ ‬في‭ ‬الناشئة‭ ‬الأدب‭ ‬والانضباط‭ ‬والنظام‭ ‬والنظافة،‭ ‬ولكنني‭ ‬لست‭ ‬على‭ ‬استعداد‭ ‬لأن‭ ‬أترك‭ ‬لمدرسة‭ ‬بريطانية‭ ‬أو‭ ‬سودانية‭ ‬مهمة‭ ‬‮«‬التربية‮»‬‭ ‬الحقيقية‭!! ‬المهم،‭ ‬أنه‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬حرصي‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬ينشأ‭ ‬عيالي‭ ‬كسودانيين‭ ‬مسلمين،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬المدرسة‭ ‬الأجنبية‭ ‬كانت‭ ‬ترغمهم‭ ‬على‭ ‬الانغماس‭ ‬في‭ ‬أنشطة‭ ‬اجتماعية،‭ ‬وتُكسبهم‭ ‬عادات‭ ‬لا‭ ‬تروق‭ ‬لي‭ ‬كثيراً‭! ‬تخيل‭ ‬موقف‭ ‬شخص‭ ‬‮«‬متخلف‮»‬‭ ‬مثلي‭ ‬عندما‭ ‬يأتيه‭ ‬ولده‭ ‬ليقول‭ ‬له‭: ‬بابا‭ ‬أديني‭ ‬300‭ ‬ريال‭ ‬عشان‭ ‬أشتري‭ ‬هدية‭ ‬عيد‭ ‬ميلاد‭ ‬لشيكو‭! ‬أصيح‭ ‬فيه‭: ‬يا‭ ‬نهار‭ ‬زي‭ ‬بعضه‭! ‬وهل‭ ‬شيكو‭ ‬هذه‭ ‬بنت‭ ‬فيفي‭ ‬عبده؟‭ ‬فيقول‭ ‬إن‭ ‬شيكو‭ ‬هو‭ ‬زميله‭ ‬شاكر‭! ‬فأسأله‭ ‬مجدداً‭ ‬وهل‭ ‬هو‭ ‬أخو‭ ‬شاكيرا؟‭ ‬فيجيب‭ ‬بلا‭! ‬فأسأله‭: ‬وهل‭ ‬أجبر‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬والديه‭ ‬على‭ ‬تسميته‭ ‬شاكر،‭ ‬فأسموه‭ ‬شيكو‭ ‬نكاية‭ ‬بالأمم‭ ‬المتحدة‭!! ‬وتحملت‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الشاكلة،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جاء‭ ‬يوم‭ ‬فقدت‭ ‬فيه‭ ‬أعصابي‭ ‬ووقاري،‭ ‬فقد‭ ‬طلب‭ ‬مضرب‭ ‬كريكيت‭ ‬لأن‭ ‬مدرس‭ ‬الرياضة‭ ‬قال‭ ‬إنه‭ ‬سيدربهم‭ ‬عليها،‭ ‬والكريكيت‭ ‬لعبة‭ ‬ركيكة،‭ ‬يقوم‭ ‬فيها‭ ‬شخص‭ ‬أهبل‭ ‬بإلقاء‭ ‬كرة‭ ‬خشبية‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬شخص‭ ‬عبيط،‭ ‬يقف‭ ‬ممسكاً‭ ‬بمضرب،‭ ‬فيتلقى‭ ‬الكرة‭ ‬ويحول‭ ‬مسارها‭ ‬ليجري‭ ‬خلفها‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المخبولين،‭ ‬ويظلون‭ ‬يكررون‭ ‬تلك‭ ‬الحركات‭ ‬السمجة‭ ‬طوال‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬3‭ ‬إلى‭ ‬10‭ ‬أيام‭ ‬حتى‭ ‬يتم‭ ‬إعلان‭ ‬النتيجة‭ ‬النهائية،‭ ‬وذهبت‭ ‬إلى‭ ‬مدير‭ ‬المدرسة‭ ‬وقلت‭ ‬له‭ ‬إن‭ ‬ولدي‭ ‬عندهم‭ ‬ليدرسوه‭ ‬اللغات‭ ‬والحساب‭ ‬والعلوم‭ ‬المتعارف‭ ‬عليها‭ ‬وما‭ ‬عدا‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬يفتح‭ ‬الله‮»‬‭... ‬ولم‭ ‬يقل‭ ‬لي‭ ‬مدير‭ ‬المدرسة‭: ‬فِز،‭ ‬انقلع‭ .. ‬بره‭!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا