العدد : ١٧٠٩٨ - الثلاثاء ١٤ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ١٤ رجب ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٩٨ - الثلاثاء ١٤ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ١٤ رجب ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

مارتن لوثر كينج.. حلم العدالة الذي ألهم العالم

بقلم: نبيلة رجب

الاثنين ١٣ يناير ٢٠٢٥ - 02:00

‮«‬لدي‭ ‬حلم‮»‬‭ ‬بهذه‭ ‬العبارة‭ ‬التي‭ ‬صدح‭ ‬بها‭ ‬مارتن‭ ‬لوثر‭ ‬كينج،‭ ‬الزعيم‭ ‬الحقوقي‭ ‬الأمريكي،‭ ‬في‭ ‬خطابه‭ ‬التاريخي‭ ‬عام‭ ‬1963،‭ ‬أعلن‭ ‬رؤية‭ ‬لعالم‭ ‬تمحى‭ ‬فيه‭ ‬الفوارق‭ ‬العنصرية‭ ‬ويتساوى‭ ‬فيه‭ ‬الجميع‭ ‬أمام‭ ‬العدالة‭. ‬خطابه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬كلمات‭ ‬تلقى،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬تحديا‭ ‬للبشرية‭ ‬لإعادة‭ ‬تعريف‭ ‬قيم‭ ‬الإنصاف‭ ‬والمساواة‭ ‬كأساس‭ ‬لبناء‭ ‬المجتمعات،‭ ‬ورسالة‭ ‬تحمل‭ ‬قوة‭ ‬الإصرار‭ ‬على‭ ‬تغيير‭ ‬واقع‭ ‬مليء‭ ‬بالظلم‭ ‬والتمييز‭.‬

نشأ‭ ‬كينج‭ ‬في‭ ‬الجنوب‭ ‬الأمريكي،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬العنصرية‭ ‬نظاما‭ ‬يفرض‭ ‬نفسه‭ ‬بقوة‭ ‬القانون،‭ ‬وكانت‭ ‬الفوارق‭ ‬العرقية‭ ‬تمارس‭ ‬كجزء‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬الطبيعية‭. ‬لكنه‭ ‬رفض‭ ‬الاستسلام‭ ‬لهذا‭ ‬الواقع،‭ ‬مستلهما‭ ‬من‭ ‬فلسفة‭ ‬اللاعنف‭ ‬التي‭ ‬تبناها‭ ‬المهاتما‭ ‬غاندي‭. ‬كينج‭ ‬أدرك‭ ‬أن‭ ‬التغيير‭ ‬الحقيقي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬بالقوة‭ ‬أو‭ ‬الانتقام،‭ ‬بل‭ ‬بالثبات‭ ‬على‭ ‬المبادئ‭ ‬واستخدام‭ ‬الكلمة‭ ‬أداة‭ ‬لتغيير‭ ‬العقول‭ ‬والقلوب‭.‬

في‭ ‬عام‭ ‬1955،‭ ‬برز‭ ‬كينج‭ ‬قائدا‭ ‬لحركة‭ ‬مقاطعة‭ ‬حافلات‭ ‬مونتجومري،‭ ‬التي‭ ‬انطلقت‭ ‬احتجاجا‭ ‬على‭ ‬اعتقال‭ ‬روزا‭ ‬باركس‭ ‬لرفضها‭ ‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬مقعدها‭ ‬لرجل‭ ‬أبيض‭. ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هذه‭ ‬المقاطعة‭ ‬حدثا‭ ‬عابرا‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬لحظة‭ ‬فاصلة‭ ‬في‭ ‬نضال‭ ‬الحقوق‭ ‬المدنية،‭ ‬حيث‭ ‬أظهرت‭ ‬أن‭ ‬الصمود‭ ‬والعمل‭ ‬الجماعي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يهزم‭ ‬الظلم‭. ‬انتهت‭ ‬المقاطعة‭ ‬بانتصار‭ ‬كبير‭ ‬ألغى‭ ‬الفصل‭ ‬العنصري‭ ‬في‭ ‬الحافلات‭ ‬العامة،‭ ‬لكنها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬سوى‭ ‬البداية‭ ‬لمسيرة‭ ‬طويلة‭ ‬نحو‭ ‬تحقيق‭ ‬المساواة‭.‬

خطابه‭ ‬الشهير‭ ‬‮«‬لدي‭ ‬حلم‮»‬‭ ‬جسَّد‭ ‬خارطة‭ ‬طريق‭ ‬لعالم‭ ‬جديد‭. ‬دعا‭ ‬كينغ‭ ‬الناس‭ ‬إلى‭ ‬تجاوز‭ ‬الأحكام‭ ‬السطحية‭ ‬المبنية‭ ‬على‭ ‬لون‭ ‬البشرة،‭ ‬والنظر‭ ‬إلى‭ ‬قيم‭ ‬الإنسان‭ ‬وأفعاله‭. ‬كلماته‭ ‬ألهمت‭ ‬أجيال‭ ‬من‭ ‬بعده‭ ‬لتحمل‭ ‬مسؤولية‭ ‬بناء‭ ‬مجتمعات‭ ‬تحترم‭ ‬إنسانية‭ ‬كل‭ ‬فرد‭.‬

رغم‭ ‬الإنجازات‭ ‬التي‭ ‬حققها‭ ‬كينج،‭ ‬كان‭ ‬يدرك‭ ‬أن‭ ‬العدالة‭ ‬الحقيقية‭ ‬لا‭ ‬تأتي‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تغيير‭ ‬القوانين،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بناء‭ ‬ثقافة‭ ‬تحترم‭ ‬الآخر‭. ‬وكان‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬تغيير‭ ‬المؤسسات‭ ‬ضروري،‭ ‬لكنه‭ ‬غير‭ ‬كاف‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يصاحبه‭ ‬تغيير‭ ‬عميق‭ ‬في‭ ‬القيم‭ ‬المجتمعية‭. ‬هذا‭ ‬الإدراك‭ ‬جعله‭ ‬يواصل‭ ‬نضاله‭ ‬رغم‭ ‬التهديدات‭ ‬المستمرة‭ ‬التي‭ ‬واجهها،‭ ‬ورغم‭ ‬الاعتقالات‭ ‬المتكررة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكسر‭ ‬إرادته‭.‬

تكريما‭ ‬لإرث‭ ‬كينج،‭ ‬تحتفل‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬سنويا‭ ‬بـ‮«‬يوم‭ ‬مارتن‭ ‬لوثر‭ ‬كينج‮»‬‭ ‬في‭ ‬الإثنين‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬يناير،‭ ‬وهو‭ ‬يوم‭ ‬يعكس‭ ‬مدى‭ ‬تأثيره‭ ‬العميق‭ ‬على‭ ‬تاريخ‭ ‬بلادهم‭. ‬هذا‭ ‬اليوم،‭ ‬الذي‭ ‬أُقر‭ ‬عطلة‭ ‬رسمية‭ ‬عندهم،‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬1983،‭ ‬يمثل‭ ‬فرصة‭ ‬لتأمل‭ ‬قيمه‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬تحقيقها‭. ‬فخلال‭ ‬هذه‭ ‬المناسبة،‭ ‬تُقام‭ ‬فعاليات‭ ‬مجتمعية‭ ‬تطوعية‭ ‬ومسيرات‭ ‬سلمية‭ ‬تُذكر‭ ‬العالم‭ ‬بأهمية‭ ‬مبادئه‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تلهم‭ ‬الملايين‭ ‬حول‭ ‬العالم‭.‬

إن‭ ‬إرث‭ ‬كينج‭ ‬يستمر‭ ‬في‭ ‬إلهام‭ ‬الحركات‭ ‬الحقوقية‭ ‬حول‭ ‬العالم،‭ ‬من‭ ‬حملات‭ ‬مكافحة‭ ‬التمييز‭ ‬إلى‭ ‬الدعوات‭ ‬العالمية‭ ‬إلى‭ ‬تحقيق‭ ‬المساواة‭ ‬في‭ ‬الفرص‭. ‬رؤيته‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬حكرًا‭ ‬على‭ ‬عصره‭ ‬أو‭ ‬بلده،‭ ‬بل‭ ‬أصبحت‭ ‬نموذجا‭ ‬عالميا‭ ‬يُحتذى‭ ‬به‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬بناء‭ ‬مجتمع‭ ‬أكثر‭ ‬عدلا‭ ‬وشمولا‭. ‬

في‭ ‬وقتنا‭ ‬الحالي،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نستلهم‭ ‬من‭ ‬نهجه‭ ‬أساليب‭ ‬عملية‭ ‬لحل‭ ‬التحديات‭ ‬الحقوقية‭ ‬المعاصرة،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬تعزيز‭ ‬التفاهم‭ ‬بين‭ ‬الثقافات‭ ‬المختلفة‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬إيجاد‭ ‬حلول‭ ‬لقضايا‭ ‬العدالة‭ ‬الاجتماعية‭.‬

حين‭ ‬اغتيل‭ ‬كينج‭ ‬عام‭ ‬1968،‭ ‬لم‭ ‬تنتهِ‭ ‬رؤيته،‭ ‬بل‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬شعلة‭ ‬تضيء‭ ‬دروب‭ ‬الطامحين‭ ‬إلى‭ ‬العدالة‭ ‬والمساواة‭. ‬أصبح‭ ‬حلمه‭ ‬انعكاسا‭ ‬لطموحات‭ ‬الشعوب‭ ‬الباحثة‭ ‬عن‭ ‬الكرامة‭ ‬والسلام،‭ ‬وترك‭ ‬أثرا‭ ‬يتجاوز‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭. ‬اليوم،‭ ‬يظل‭ ‬إرث‭ ‬كينج‭ ‬دعوة‭ ‬للأمل‭ ‬والعمل،‭ ‬وكلماته‭ ‬تبقى‭ ‬شاهدة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تحقيق‭ ‬العدالة‭ ‬هو‭ ‬السبيل‭ ‬الحقيقي‭ ‬لإرساء‭ ‬السلام‭ ‬في‭ ‬العالم‭.‬

في‭ ‬كل‭ ‬المجتمعات‭ ‬ذات‭ ‬التركيبة‭ ‬التعددية،‭ ‬يظل‭ ‬التنوع‭ ‬الثقافي‭ ‬والديني‭ ‬مصدر‭ ‬غنى‭ ‬واعتزاز،‭ ‬وتظل‭ ‬رسالة‭ ‬مارتن‭ ‬لوثر‭ ‬كينج‭ ‬بقيمة‭ ‬العدالة‭ ‬والإنصاف‭ ‬مصدر‭ ‬إلهام‭ ‬في‭ ‬تعزيز‭ ‬الوحدة‭ ‬الوطنية‭. ‬هذه‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬تتجسد‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬فتعكس‭ ‬روح‭ ‬التعاون‭ ‬والتقدير‭ ‬المتبادل،‭ ‬مما‭ ‬يضمن‭ ‬ترابط‭ ‬المجتمع‭ ‬ويعزز‭ ‬الشعور‭ ‬بالمشاركة‭ ‬لدى‭ ‬الجميع،‭ ‬ليظل‭ ‬المستقبل‭ ‬المشترك‭ ‬هدفا‭ ‬نبيلا‭ ‬يتشارك‭ ‬فيه‭ ‬الجميع‭ ‬بروح‭ ‬من‭ ‬المحبة‭.‬

في‭ ‬ختام‭ ‬المسيرة‭ ‬التي‭ ‬بدأها‭ ‬كينج،‭ ‬تبرز‭ ‬قوة‭ ‬حلمه‭ ‬في‭ ‬وضوحه‭ ‬وعمقه،‭ ‬وفي‭ ‬دعوته‭ ‬لجعل‭ ‬العدالة‭ ‬نهجا‭ ‬يمارس‭ ‬في‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬وليس‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬النصوص‭ ‬والقوانين‭. ‬هذه‭ ‬الرسالة‭ ‬تعكس‭ ‬أهمية‭ ‬بناء‭ ‬مجتمعات‭ ‬ترسخ‭ ‬قيم‭ ‬العدالة‭ ‬والإنصاف،‭ ‬وهو‭ ‬ليس‭ ‬حلما‭ ‬بعيد‭ ‬المنال،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬هدف‭ ‬يمكن‭ ‬تحقيقه‭ ‬بإرادة‭ ‬صادقة‭ ‬وجهود‭ ‬مشتركة‭.  ‬لقد‭ ‬ألهم‭ ‬كينج‭ ‬العالم‭ ‬بالإيمان‭ ‬بقدرة‭ ‬الإنسان‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬التغيير،‭ ‬وما‭ ‬زالت‭ ‬رؤيته‭ ‬تحملنا‭ ‬مسؤولية‭ ‬مواصلة‭ ‬الطريق‭ ‬الذي‭ ‬رسمه‭ ‬نحو‭ ‬مستقبل‭ ‬أكثر‭ ‬عدلا‭ ‬وإنسانية‭.‬

 

rajabnabeela‭.‬gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا