بينما تستعد إدارة الحزب الجمهوري بقيادة «دونالد ترامب»، للعودة إلى البيت الأبيض بعد أربع سنوات من حكم الديمقراطيين، تبرز مواجهة البرنامج النووي الإيراني المتسارع، كأولوية على أجندتها للسياسة الخارجية. وكان «ترامب»، قد انسحب في 2018 بشكل أحادي من «خطة العمل الشاملة المشتركة»، التي تفاوض عليها سلفه «باراك أوباما»، وشرع في حملة «الضغط الأقصى» ضد طهران؛ بهدف إجبارها على العودة إلى طاولة المفاوضات.
وردًا على انسحاب «واشنطن» من الاتفاق النووي، كثفت إيران جهودها في تخصيب اليورانيوم وسرّعت برنامجها النووي، مما يزيد من احتمالية ظهور دولة أخرى مسلحة نوويًا. وفي المقابل، يتوقع المراقبون أن تعود إدارة «ترامب» في ولايتها الثانية، إلى تبني استراتيجية «الضغط الأقصى»، خاصة مع تعيين شخصيات بارزة من صقور السياسة الخارجية، مثل «ماركو روبيو»، كوزير للخارجية، و«مايك والتز»، مستشارًا للأمن القومي.
وعلى الرغم من ذلك، فإن المشهد الاستراتيجي في الشرق الأوسط في يناير 2025، يتسم بتغيرات جذرية، مقارنة بما كان عليه «ترامب» عند مغادرة منصبه. وشهد عام 2024 سلسلة من الأحداث الكبرى، أبرزها حرب إسرائيل على غزة، وغزوها للبنان، وشنها ضربات صاروخية متعددة ضد إيران، وسقوط نظام بشار الأسد في سوريا، وقد أسفرت هذه التطورات عن إضعاف كبير لما يُعرف بـ«محور المقاومة» في طهران، أو كما وصفته «كارولين هاولي»، من شبكة «بي بي سي»، أنه أصبح «مُحطمًا».
وفي ظل الوضع الاستثنائي الذي تواجهه «إدارة ترامب» مع عودتها إلى السلطة في 20 يناير 2025، يرى العديد من المعلقين الغربيين أن هناك فرصة لإحياء الجهود الدبلوماسية مع إيران. ومع ذلك، لا تُستبعد إمكانية اللجوء إلى الضربات العسكرية الأمريكية، إذا استمرت في تطوير برنامجها النووي. ووصف «ريتشارد نيفيو» في مجلة «فورين أفيرز»، «العام الجديد»، بأنه «الفرصة الأخيرة لطهران في نظر الحكومات الغربية»، مؤكدا أن الإدارة الأمريكية يجب أن تمنح الدبلوماسية فرصة أخيرة، مع التحضير في الوقت ذاته لاستخدام القوة العسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية إذا لزم الأمر.
وعلى نحو مماثل، كتب «ريتشارد هاس»، في نفس الصحيفة عن «الفرصة المواتية بالنسبة لإيران»، حيث «يستدعي النهج الأكثر إيجابية» لواشنطن، وحلفائها «مواصلة هدفها المتمثل في إعادة تشكيل سياسة الأمن القومي الإيرانية من خلال الدبلوماسية»، وإن كان ذلك يسترعي أيضاً «التحرك على خلفية القدرة والاستعداد لاستخدام القوة العسكرية»؛ إذا لم «تعالج طهران المخاوف الأمريكية والغربية بشكل كاف»، بشأن انتشارها النووي.
ومن بين خلافات «الولايات المتحدة»، وحلفائها الغربيين مع إيران -مثل تسليح ودعم وكلائها في مختلف أنحاء الشرق الأوسط وقمع حقوق شعبها -اعتبر «هاس»، أن برنامجها النووي، يجب أن يكون على رأس أولويات صناع السياسة الأمريكيين. ومع الهجمات العسكرية التي شنتها إسرائيل ضد منشآت البرنامج النووي الإيراني، أبدت واشنطن حماسًا ملحوظًا للسير على خطى حليفتها.
وأوضح «نيفيو»، أن الأصوات المتشددة في «واشنطن»، التي دعت إلى شن هجمات مباشرة ضد إيران خلال العِقدين الماضيين، قوبلت بالرفض المتكرر استنادًا إلى مبررات مقنعة، مفادها أن «قدرات إيران النووية غير ناضجة»، وأن «المجتمع الدولي اتفق على ضرورة أن تثبت أن نواياها النووية سلمية تمامًا»، إضافة إلى أن «العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها كانت قد أرغمتها على التفاوض»؛ لكن بحلول 2025، أكد أن الوضع تغير، حيث أصبحت تمتلك «كل ما تحتاجه تقريبًا لصنع سلاح نووي»، كما أن المجتمع الدولي منقسم حول ما إذا كان ينبغي الضغط عليها للتخلي عن برنامجها النووي في الوقت الذي يوجه فيه الاتهام إلى الصين، وروسيا، والهند لمساعدتها في خرق العقوبات الدولية المفروضة عليها.
وفي العام الماضي، شهدت التحركات العسكرية الأمريكية ضد المواقع النووية الإيرانية، سواء عبر تنفيذها مباشرة أو بدعم وثيق من إسرائيل، تصاعداً ملحوظاً في الخطاب السياسي الأمريكي. وأعرب «دون بيكون»، عضو لجنة الخدمات المسلحة بمجلس النواب، عن تأييده لشن هجمات على أهداف إيرانية، مشيراً إلى أن «هؤلاء الرجال يمقتوننا، ويكرهون إسرائيل، وقد فقدنا الردع» مضيفا أن على واشنطن استغلال «الفرصة» الحالية لـ«تدمير قدراتهم النووية». ومن جانبه، شدد السيناتور «تومي توبرفيل»، عضو لجنة الخدمات المسلحة بمجلس الشيوخ على ضرورة «منع إيران من الحصول على سلاح نووي، أو تهديد الولايات المتحدة وحلفائها». وأضاف أنه لا خيار أمام ترامب سوى «استخدام كافة الوسائل المتاحة لضمان أمن الأمريكيين وحلفائنا في مواجهة هذا التهديد الحقيقي والخطير للغاية».
علاوة على ذلك، لا تقتصر هذه التوجهات على الحزب الجمهوري وحده، إذ كشف «باراك رافيد»، من موقع «أكسيوس»، أن «جيك سوليفان»، مستشار الأمن القومي الحالي، قد عرض على «جو بايدن»، «خيارات لهجوم أمريكي محتمل على منشآت إيران النووية في حال أقدمت على تسريع عملية تخصيب اليورانيوم خلال فترة انتقال الإدارة الأمريكية.
من جانبه، أقر «هاس»، بأن النظام الإيراني «أضعف مما كان عليه منذ عقود». وفي مواجهة أصوات المشرعين الأمريكيين المؤيدين للجوء إلى الهجمات العسكرية في الوقت الحالي؛ حذر من أن «التجارب السابقة تشير إلى صعوبة توقع النتائج المرجوة من استخدام القوة العسكرية أو العقوبات الاقتصادية» الهادفة إلى «إسقاط النظام السياسي الحالي واستبداله بنظام أفضل»، مضيفا أن «التطورات على مدى الأشهر الخمسة عشر الماضية خلقت فرصة غير متوقعة لكبح جماح إيران»، وأن مثل هذه الفرصة لا ينبغي «إهدارها»، وأن «النهج الصحيح لواشنطن هو أن تبدأ بالدبلوماسية»، بالاتساق مع التهديد باستخدام القوة.
وفي سياق مشابه، دعا «نيفيو»، إدارة ترامب إلى «بذل جهد أخير للتفاوض على وقف البرنامج النووي الإيراني»، خلال الأسابيع والأشهر الأولى، مع التأكيد في الوقت ذاته على أهمية «الاستعداد لعمل عسكري منذ الآن، وضمان أن تدرك إيران جدية هذا التهديد».
وعلى الرغم من «الوضع المتقلب»، رأى «نيفيو»، أن هناك «أسبابًا للتفاؤل»، بنتيجة إيجابية لهذا، مؤكدًا كيفية امتثال طهران لشروط «خطة العمل الشاملة المشتركة»، حتى انسحاب ترامب منه في 2018. بالإضافة إلى ذلك، زعم أن ترامب وجمهورييه «في وضع جيد لهندسة بديل» للاتفاق النووي لعام 2015 على وجه التحديد؛ «لأنهم انسحبوا منه من قبل، مشيرًا إلى كيف فشلت محاولات «بايدن»، لاستعادة الاتفاق في عامي 2021 و2022؛ لفقدان طهران الثقة في قدرة واشنطن على الوفاء باتفاق بعد انتقال السلطة».
وبحسب «كيسلي دافنبورت»، من «جمعية الحد من الأسلحة»، فإنه من الضروري أن «تدرك إدارة ترامب أهمية إرسال إشارات مبكرة ومتسقة إلى إيران بأنها مهتمة بالبدء بسرعة في عملية التفاوض»؛ بغية «التوصل إلى اتفاق في غضون الأشهر الستة الأولى من 2025». ونتيجة لذلك، أضافت أن كبار الجمهوريين، بمن في ذلك الرئيس المنتخب، يجب أن «يدينوا الحديث غير الدقيق عن العمل العسكري الوقائي ضدها». ومع ذلك، حتى الآن لم يتم الالتفات إلى هذه التحذيرات، ففي مقابلة مع مجلة «تايم» في ديسمبر 2024، أكد «ترامب»، «إمكانية حدوث أي شيء في هذا الوضع المتبدل للغاية».
وفي حالة فشل العودة إلى الدبلوماسية في ظل الدعوات المتزايدة من داخل وخارج الإدارة الجمهورية القادمة لترامب لإصدار أمر بضربات عسكرية أمريكية ضد المنشآت النووية الإيرانية؛ أقر «هاس»، بما سيجلبه هذا من عواقب وخيمة، ليس فقط على الشرق الأوسط، ولكن أيضًا على العالم بأسره، بما في ذلك صدمة كبيرة لسوق الطاقة الدولية. واعترف «نيفيو»، أيضًا بأن هذا من شأنه أن «يخلق المزيد من الفوضى وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط»، خاصة وأن تعرض إيران لهجوم من قبل قوة نووية مؤكدة يعني أنها «ستكون لديها حافز جديد لتطوير رادعها الخاص» بمعدل أسرع.
علاوة على ذلك، أشار «نيفيو»، إلى أن «احتمالات فشل» الضربات الأمريكية المباشرة على المنشآت النووية الإيرانية «مرتفعة»، موضحا أن طهران قد تلجأ إلى نقل اليورانيوم العالي التخصيب إلى مواقع سرية كإجراء احترازي، مما يعني أن الهجوم «قد يؤخر فقط التسلح النووي الإيراني» دون أن يوقفه تمامًا. وفي مثل هذا السيناريو، رأى أن الولايات المتحدة ستجد نفسها مضطرة إما إلى «مهاجمة إيران بشكل مستمر»، أو «تنفيذ هجوم أوسع نطاقًا»، وهو ما وصفه بـ«الطرح الأحمق إذا افترضنا أن واشنطن مستعدة للالتزام بهذا المستوى من التصعيد».
وفي هذا السياق، أكد «نيفيو»، أن الحل الأفضل والأكثر استدامة لهذه القضية، يتمثل في التوصل إلى «اتفاق دبلوماسي». ومع ذلك، أشار «هاس»، إلى أن تحقيق هذا الحل يتطلب المضي قدمًا في متابعته بالتزامن مع التهديدات بالعمل العسكري، مشيرا إلى ضرورة التحرك الفوري لاحتمال أن تسعى إيران إلى «إعادة ترتيب أوراقها ولم شمل وكلائها في المنطقة»، مما يمكنها من استعادة مكانتها الاستراتيجية.
على العموم، فإن توافق الأكاديميين وصناع السياسات في واشنطن، من المنتمين لكلا الحزبين الرئيسيين، بشكل كبير على هذا الطرح، يوفر استبصارًا حول نهج السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط. ومع إثارة «نيفيو»، لما قد يترتب على شن هجوم أمريكي من القضاء على أي فرصة للعودة إلى العمل الدبلوماسي بعد ذلك، فإنه من الواضح أن هناك تحولًا جادًا في ميول الإدارة الأمريكية نحو الاستعداد لشن هجمات مباشرة، إلى جانب تلك التي تنفذها إسرائيل.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك