العدد : ١٧٠٩٨ - الثلاثاء ١٤ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ١٤ رجب ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٩٨ - الثلاثاء ١٤ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ١٤ رجب ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

منهج التعليم ودوره في تقدم وازدهار الأمم (2-2)

بقلم: د. محمد عيسى الكويتي

الثلاثاء ١٤ يناير ٢٠٢٥ - 02:00

بدأ‭ ‬التقدم‭ ‬الغربي‭ ‬بثورة‭ ‬إنسانية‭ ‬معرفية‭ ‬أهلتهم‭ ‬بعد‭ ‬قرون‭ ‬من‭ ‬التربع‭ ‬على‭ ‬ناصية‭ ‬العلم‭ ‬والتكنولوجيا،‭ ‬ومكنتهم‭ ‬من‭ ‬اكتساح‭ ‬العالم‭. ‬بدأ‭ ‬التقدم‭ ‬الاوروبي‭ ‬بثورة‭ ‬تعليمية‭ ‬إنسانية‭ ‬قامت‭ ‬على‭ ‬الانفتاح‭ ‬وأنتجت‭ ‬التعددية‭ ‬والمعارف‭ ‬والعلوم‭. ‬بدأت‭ ‬حركة‭ ‬الأنسنة‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬الإيطالية‭ ‬بثورة‭ ‬في‭ ‬التعليم‭ ‬والمعرفة‭ ‬والثقافة‭ ‬الأدبية‭ ‬والفنية‭. ‬ركزت‭ ‬الأنسنة‭ ‬على‭ ‬دراسة‭ ‬التراث‭ ‬اليوناني‭ ‬والروماني،‭ ‬وانتقلت‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬الجانب‭ ‬الديني‭ ‬إلى‭ ‬البعد‭ ‬الإنساني‭ ‬وقدرات‭ ‬الإنسان‭ ‬وطاقاته‭ ‬ونجاحاته‭. ‬ينطوي‭ ‬التعليم‭ ‬الإنساني‭ ‬على‭ ‬خصائص‭ ‬مثل‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬تنمية‭ ‬الإنسان‭ ‬ككل‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬المهارات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والأخلاقية‭ ‬وليس‭ ‬فقط‭ ‬قدراته‭ ‬العقلية؛‭ ‬ثانيا‭ ‬أنه‭ ‬نهج‭ ‬يركز‭ ‬على‭ ‬المتعلم‭ ‬وتعليم‭ ‬نشط‭ ‬يؤكد‭ ‬التفكير‭ ‬النقدي‭ ‬والاستقصاء‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬به‭ ‬الطالب،‭ ‬ثالثا‭ ‬أنه‭ ‬تعليم‭ ‬متعدد‭ ‬التخصصات‭ ‬يفتح‭ ‬قريحة‭ ‬الطالب‭ ‬للربط‭ ‬بين‭ ‬المواد‭ ‬المختلفة‭ ‬والتفكير‭ ‬المنظومي‭ ‬في‭ ‬القضايا،‭ ‬من‭ ‬جوانب‭ ‬متعددة‭. ‬رابعا‭ ‬أنه‭ ‬برنامج‭ ‬يعطي‭ ‬أهمية‭ ‬كبيرة‭ ‬للقيم‭ ‬الأخلاقية‭ ‬مثل‭ ‬الصدق‭ ‬والنزاهة‭ ‬والرحمة‭ ‬والعدالة‭ ‬الاجتماعية‭. ‬يقوم‭ ‬هذا‭ ‬الاهتمام‭ ‬على‭ ‬قناعة‭ ‬بأن‭ ‬التقدم‭ ‬الانساني‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬العلم‭ ‬وعلى‭ ‬الفكر‭ ‬النقدي‭ ‬والفضول‭ ‬العلمي‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬النقد‭ ‬والفضول‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬تقدم‭. ‬ويقوم‭ ‬كذلك‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬التعددية‭ ‬هي‭ ‬طبيعية‭ ‬والأحادية‭ ‬منافية‭ ‬للواقع‭ ‬والأديان‭. ‬

بدأ‭ ‬التقدم‭ ‬الغربي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬عشر‭ ‬كردة‭ ‬فعل‭ ‬تجاه‭ ‬أزمات‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬تعلق‭ ‬بالطاعون‭ ‬وتأثيره‭ ‬المدمر‭ ‬على‭ ‬المجتمعات‭ ‬ومنها‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬متعلق‭ ‬بالصراعات‭ ‬الدينية‭ ‬بين‭ ‬السلطة‭ ‬الدينية‭ ‬والسياسية‭. ‬تمخضت‭ ‬ردات‭ ‬الفعل‭ ‬عن‭ ‬حركة‭ ‬تعليمية‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬الإيطالية‭ ‬وما‭ ‬سمي‭ ‬بعصر‭ ‬النهضة‭ ‬الأوروبية‭ ‬تحت‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬الأنسنة‮»‬‭ ‬أو‭ ‬الأنسنة‭ ‬المدنية‭ (‬Civic‭ ‬Humanism‭). ‬هدفت‭ ‬هذه‭ ‬الحركة‭ ‬إلى‭ ‬تكوين‭ ‬مواطن‭ ‬صالح‭. ‬تكوين‭ ‬المواطن‭ ‬الصالح‭ ‬اقتضى‭ ‬بناء‭ ‬قدراته‭ ‬الخطابية‭ ‬والمنطقية‭ ‬لتؤهله‭ ‬للمشاركة‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬العامة‭ ‬وتمنحه‭ ‬مهارة‭ ‬الإقناع‭ ‬وتوصيل‭ ‬أفكاره‭ ‬وآرائه‭ ‬في‭ ‬الحوارات‭ ‬السياسية‭ ‬والمجتمعية،‭ ‬واتخاذ‭ ‬القرار‭ ‬المبني‭ ‬على‭ ‬المنطق‭ ‬والمعلومات‭ ‬والأسس‭ ‬الأخلاقية‭ ‬والقيمية‭. ‬كذلك‭ ‬اهتمت‭ ‬حركة‭ ‬الأنسنة‭ ‬بتدريس‭ ‬مواد‭ ‬العلوم‭ ‬الدينية‭ ‬والأخلاق،‭ ‬ونظرا‭ ‬إلى‭ ‬اختلاف‭ ‬المفاهيم‭ ‬الدينية‭ ‬من‭ ‬وقت‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬فقد‭ ‬تم‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬القيم‭ ‬والأخلاق‭. ‬قاد‭ ‬هذا‭ ‬التوجه‭ ‬في‭ ‬التعليم‭ ‬إلى‭ ‬تحولات‭ ‬ثقافية‭ ‬وفكرية‭ ‬شجعت‭ ‬التفكير‭ ‬النقدي،‭ ‬والفضول‭ ‬الفكري،‭ ‬وجددت‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالطبيعة‭ ‬وقوانينها‭. ‬أثمر‭ ‬هذا‭ ‬التعليم‭ ‬الإنساني‭ ‬في‭ ‬تنمية‭ ‬المؤسسات‭ ‬الديمقراطية‭ ‬وازدهار‭ ‬الفنون‭ ‬والعلوم،‭ ‬نتج‭ ‬عنها‭ ‬تحولات‭ ‬مجتمعية‭ ‬تعظم‭ ‬القدرات‭ ‬والطاقات‭ ‬الفردية‭. ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬التوجه‭ ‬كان‭ ‬تحديا‭ ‬كبيرا‭ ‬للتصلب‭ ‬وجمود‭ ‬التكوين‭ ‬الطبقي‭ ‬للمجتمع‭ ‬آنذاك،‭ ‬وأسهمت‭ ‬حركة‭ ‬الأنسنة‭ ‬في‭ ‬نمو‭ ‬المدن،‭ ‬وظهور‭ ‬طبقة‭ ‬تجارية‭ ‬نشطة‭ (‬طبقة‭ ‬وسطى‭ ‬كبيرة‭) ‬وشكل‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬التنظيم‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والسياسي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬والثقافي‭. ‬أكد‭ ‬التعليم‭ ‬الإنساني‭ ‬هذا‭ ‬المشاركة‭ ‬والتنمية‭ ‬الأخلاقية‭ ‬وخلق‭ ‬مجتمعا‭ ‬تشاركيا‭ ‬وأكثر‭ ‬تعليما‭.‬

اعتمدت‭ ‬النهضة‭ ‬الانسانية‭ ‬الايطالية‭ ‬في‭ ‬إصلاح‭ ‬التعليم‭ ‬على‭ ‬7‭ ‬مواد‭ ‬رئيسية،‭ ‬مقسمة‭ ‬إلى‭ ‬مجموعتين‭. ‬المجموعة‭ ‬الاولى‭ ‬4‭ ‬مواد،‭ ‬أولها‭ ‬اللغات‭ ‬الكلاسيكية‭ (‬اللاتينية‭ ‬واليونانية‭ ‬القديمة‭). ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬اللغات‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬تمت‭ ‬دراسة‭ ‬وقراءة‭ ‬النصوص‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬الفلسفة‭ ‬والأدب‭ ‬والتاريخ،‭ (‬وكذلك‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬لاحق‭ ‬إعادة‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالكتاب‭ ‬المقدس‭ (‬الإنجيل‭) ‬وإعادة‭ ‬قراءته‭ ‬وتفسيره‭). ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬التعليم‭ ‬عزز‭ ‬التفكير‭ ‬النقدي‭ ‬والمهارات‭ ‬التحليلية‭ ‬وتقدير‭ ‬الثقافات‭ ‬والوجهات‭ ‬النظرية‭ ‬المختلفة‭. ‬المادة‭ ‬الثانية‭ ‬الأدب‭ (‬النثر‭ ‬والشعر‭ ‬والدراما‭ ‬والنثر‭)‬،‭ ‬يعرض‭ ‬الأدب‭ ‬تعقيدات‭ ‬التجارب‭ ‬الإنسانية‭ ‬وفهم‭ ‬الطبيعة‭ ‬البشرية‭ ‬والتعاطف‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭. ‬ثالثا‭ ‬التاريخ،‭ ‬يساعد‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬الماضي‭ ‬وتحليل‭ ‬الأسباب‭ ‬والنتائج‭ ‬والعلاقة‭ ‬بينهما،‭ ‬والتعَلُّم‭ ‬من‭ ‬النجاحات‭ ‬والإخفاقات،‭ ‬ويعزز‭ ‬الشعور‭ ‬بالانتماء‭ ‬العالمي‭ ‬والإنساني‭ ‬وتقدير‭ ‬الثقافات‭ ‬ووجهات‭ ‬النظر‭ ‬المختلفة‭. ‬رابعا‭ ‬الفلسفة،‭ ‬تشجع‭ ‬التساؤل‭ ‬والتفكير‭ ‬النقدي،‭ ‬والتفكير‭ ‬الأخلاقي‭ ‬واستكشاف‭ ‬الأسئلة‭ ‬الأساسية‭ ‬حول‭ ‬الوجود‭ ‬والمعرفة‭ ‬والأخلاق،‭ ‬كما‭ ‬تساعد‭ ‬على‭ ‬تطوير‭ ‬القيم‭ ‬والمعتقدات‭ ‬الخاصة‭ ‬وتُعلم‭ ‬حسن‭ ‬صياغة‭ ‬المواقف‭ ‬والدفاع‭ ‬عنها‭ ‬بمنطق‭ ‬موضوعي‭. ‬

المجموعة‭ ‬الثانية‭ ‬مواد‭ ‬تُطور‭ ‬وتُنمي‭ ‬المهارات،‭ ‬وأولها‭ ‬البلاغة‭ ‬والتواصل‭ ‬التي‭ ‬تؤهل‭ ‬المواطن‭ ‬للتواصل‭ ‬مع‭ ‬المجتمع،‭ ‬وتمنحه‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الإقناع‭ ‬والمشاركة‭ ‬المدنية‭ ‬في‭ ‬الحوارات‭ ‬المجتمعية‭. ‬ثانيا‭ ‬الرياضيات‭ ‬والعلوم،‭ ‬تهيئ‭ ‬المواطن‭ ‬لفهم‭ ‬الخلق‭ ‬من‭ ‬حوله‭ ‬وحل‭ ‬المشكلات‭ ‬واتخاذ‭ ‬القرارات‭ ‬المستنيرة،‭ ‬وتقوي‭ ‬المهارات‭ ‬التحليلية‭ ‬وروح‭ ‬الاستقصاء‭. ‬ثالثا‭ ‬الفنون،‭ ‬لتعزز‭ ‬روح‭ ‬الإبداع‭ ‬والخيال‭ ‬والذكاء‭ ‬العاطفي‭ ‬وتوفر‭ ‬فرصا‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬الذات‭ ‬وتقدير‭ ‬الجمال‭ ‬والتنوع‭.‬

ما‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬المجتمع‭ ‬هو‭ ‬الإصلاح‭ ‬الديني‭ ‬والثورة‭ ‬اللوثرية‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭ ‬التي‭ ‬قلبت‭ ‬موازين‭ ‬الكنيسة‭ ‬الكاثوليكية‭ ‬وأنتجت‭ ‬مذاهب‭ ‬وتوجهات‭ ‬سياسية‭ ‬أدخلت‭ ‬أوروبا‭ ‬في‭ ‬حروب‭ ‬انتهت‭ ‬إلى‭ ‬قناعة‭ ‬بأهمية‭ ‬التعددية‭ ‬وحق‭ ‬الاختلاف‭ ‬والحرية‭ ‬الفكرية‭ ‬والعقائدية‭ ‬وفصلها‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭. ‬هذه‭ ‬التطورات‭ ‬مكنت‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬طرح‭ ‬الأسئلة‭ ‬ومناقشة‭ ‬مسلمات‭ ‬دينية‭ ‬وكنسية‭ ‬ومراجعة‭ ‬تفاسير‭ ‬ونصوص‭ ‬ومفاهيم‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬متناغمة‭ ‬مع‭ ‬القراءة‭ ‬الجديدة‭ ‬للكتب‭ ‬المقدسة،‭ ‬بل‭ ‬يتعارض‭ ‬بعضها‭ ‬مع‭ ‬الاكتشافات‭ ‬العلمية‭ ‬والاستنتاجات‭ ‬الفكرية‭. ‬تمخضت‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬عن‭ ‬أولوية‭ ‬الضمير‭ ‬الإنساني‭ ‬والحرية‭ ‬الدينية‭. ‬خلقت‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬حركة‭ ‬اجتماعية‭ ‬كانت‭ ‬بمثابة‭ ‬الوقود‭ ‬للثورة‭ ‬العلمية‭ ‬والابتكارات‭ ‬الثقافية‭. ‬الروح‭ ‬النقدية‭ ‬والفضول‭ ‬الفكري،‭ ‬ومراجعة‭ ‬المسلمات‭ ‬والاعتقادات‭ ‬التقليدية،‭ ‬أنتجت‭ ‬ثورة‭ ‬علمية‭ ‬قلبت‭ ‬موازين‭ ‬أكثر‭ ‬المسلمات‭ ‬رسوخا‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬الأوروبي‭. ‬سقوط‭ ‬هذه‭ ‬المسلمات‭ ‬أعطى‭ ‬انطلاقة‭ ‬الثورة‭ ‬العلمية‭ ‬والتفكير‭ ‬المنهجي‭ ‬العلمي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬عشر،‭ ‬حققت‭ ‬هذه‭ ‬الثورة‭ ‬العلمية‭ ‬تقدما‭ ‬صناعيا‭ ‬وتكنولوجيا‭. ‬دروس‭ ‬التاريخ‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تحثنا‭ ‬على‭ ‬التساؤل‭: ‬هل‭ ‬سيكون‭ ‬هناك‭ ‬عصر‭ ‬نهضة‭ ‬عربية؟‭ ‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا