يقول الفيلسوف اليوناني الشهير سقراط: «الحياة بدون اختبارات لا معنى لها»!
لقد اختبرها الخالق سبحانه وتعالى بابتلاء منذ ولادتها، ولكنها أبت إلا أن تنجح في هذا الامتحان وبامتياز، فقد قررت أن تجعل من هذه المحنة سببا في تألقها وتميزها، وأن تحولها إلى مصدر قوة، لإيمانها بأن الله لا يعطي أصعب معاركه إلا لأقوى جنوده، فكانت أول طبيبة أسنان في العالم فاقدة لحاسة السمع تحصل على درجة الماجستير في مجال طب الفم والأسنان وتخوض انتخابات نقابة الأطباء بالمملكة ومتحدثة في تاريخ هيئة الأمم المتحدة.
د. إسراء البابلي، ترى ابتلاءها أكبر نعمة رزقت بها، فقد اكتفت بأن تستمع إلى أصوات الدنيا وتغاريدها على طريقتها الخاصة، واختارت أن تتواصل بلغة الشفاه التي كسرت بها حاجز عالم الصمت وقفزت على أسواره وتحررت منه، فجاءت الانطلاقة مبهرة بقدر ما تحمله من إصرار وعزيمة.
حول هذه التجربة الملهمة كان الحوار التالي:
كيف تم اكتشاف الإعاقة؟
حين فتحت عيناي على الدنيا لم أتوقع مطلقا أن تنشأ بيني وبين الحياة علاقة كراهية، فقد ولدت فاقدة لحاسة يراها الكثيرون شديدة الأهمية في التواصل والتعلم والمعرفة، ولم انطق بحرف واحد أو بكلمة ماما وبابا لسنوات مثل أي طفل سوي، حتى جاء يوم كنت ألهو فيه بأواني الطهي وأصدر من ذلك ضجيجا كبيرا ولكن لم يظهر علي أي رد فعل أو حتى تعابير على وجهي تجاه هذه الأصوات العالية فادرك الوالدين أن هناك مشكلة ما فاصطحباني إلى الطبيب، وتم تشخيص حالتي، وبالطبع في البداية عانا من الصدمة، وعاشا حالة من النكران، وهنا بدأت رحلتي مع تلقي الكثير من الصفعات.
أول محطة لمعركتك مع الحياة؟
عند تشخيص حالتي على أنها صمم حسي عصبي عميق في كلا الأذنين، نزل الخبر كالصاعقة على الوالدين، وشيئا فشيئا أصبحا ينظران إلى الأمر من زاوية أخرى، واعتبرا هذا الابتلاء مجرد عقبة بسيطة سوف يتم تجاوزها من خلال تعاوننا جميعا، وكانت أول محطة لمعركتي مع الحياة هي ارتدائي السماعة التي كانت في حقبة التسعينات ثقيلة الوزن ومتصلة بالعديد من الأسلاك، ولم يكن هناك في ذلك الوقت عمليات زراعة للقوقعة، وما زلت أذكر ما قاله الطبيب لنا من أن اكتسابي اللغة أمر يعتبر مستحيلا، وأنه علي أن أبدأ في تعلم واستخدام لغة الإشارة للتواصل، ولكنه لم يكن يعلم ما يحمله والدي من عزيمة وإصرار، فقد تعلمت منهما أنه ليس هناك شيء اسمه مستحيل، وأنه حين لا أجد مفتاحا لأي باب فعلي ألا أيأس مطلقا وأحاول كسره.
ماذا كانت أول كلمة تم النطق بها؟
ظل الوالدان ينتظران سماع صوتي والنطق بأولى كلماتي من دون كلل أو ملل، وقد التحقت أمي بدورة تدريبية في التخاطب والتأهيل اللفظي، وصبت كل اهتمامها على تحسن حالتي، وتخلت في سبيل ذلك عن تحقيق طموحاتها الشخصية، وركزت فقط على أن توفر لي حياة سعيدة، وعكفت على تدريبي على النطق حتى أنها في بعض الأحيان كانت تنزف الدم من حنجرتها، واستمرت المحاولات إلى أن جاء اليوم الذى بعث لهما فيه الله سبحانه وتعالى نسمة من الأمل بعد ان كانا على حافة الانهيار، وسمعا مني فجأة ومن غير سابق إنذار كلمة «بابا وماما»، وكأن الخالق طبطب عليهما بعد مشوار طويل من المعاناة وأرسل اليهما رسالة تحفزهما على مواصلة الدرب، ثم بدأت التقط بعض الكلمات والعبارات القصيرة غير المفهومة إلى أن جاء وقت رحلة البحث عن مدرسة تقبل حالتي.
تفاصيل الرحلة؟
حين رفضت الكثير من المدارس قبولي بسبب حالتي هنا شعرت بنبذ المجتمع لي، وأذكر أنني رفضت ارتداء السماعة وتمنيت أن التحق بالمدرسة وأمارس حياتي مع أقراني بشكل طبيعي مثلي مثلهن، ولم أكن أدري أن هذا الجهاز بالرغم من قباحته مهم لي للغاية، وكانت والدتي تؤكد لي دوما أنني متميزة ولست مختلفة عن الآخرين، وأن هذا هو سبب رفض البعض لي، وأن الخالق اصطفاني كي أكون من أقوى جنوده في الدنيا، وقد تم قبولي بإحدى المدارس في جمهورية مصر العربية وكانت هناك إحدى المعلمات تعاني الصمم مثلي وترتدي نفس السماعة، وتعلقت بها جدا بشدة، ولكن الأهالي نفروا مني، وطالبوا بنقلي إلى مدرسة لذوي الاحتياجات الخاصة خوفا من تأثيري سلبا على أبنائهم في طريقة النطق وطبيعة الصوت، وبالفعل تم طردي من المدرسة.
بعد الطرد من المدرسة؟
عقب طردي من المدرسة جاءت تدابير من الله سبحانه وتعالى ليعوضني عن صدمتي، حيث أسند لوالدي عمل في مملكة البحرين، وهنا بدأت مرحلة جديدة وجميلة في حياتي، وجدت فيها كل الرعاية والأمن والأمان، وتم إدماجي في إحدى المدارس وبلا أي تمييز، ووجدت كل سبل الدعم من المعلمات والزميلات، وآمن الجميع بقدراتي وخاصة مديرة المدرسة التي كانت تشجعني بعد أن تحسن نطقي على الوقوف أمام الطابور المدرسي والتحدث إلى الطالبات، وأذكر أنني قمت بتلاوة سورة الفاتحة في أول مرة أمسكت فيها بالميكروفون وصفق لي الجميع بحرارة، الأمر الذي حفزني كثيرا على مواصلة مشواري بكل ثقة.
متى تمت زراعة القوقعة؟
بعد أن قضيت طفولتي بين المدرسة وبين دروس التخاطب والتدريب اللفظي والسمعي، فوجئنا في الصف الأول الثانوي بأنني فقدت ما تبقى من السمع في الأذن اليسرى، وهنا كان لزاما علينا أن نجري عملية زراعة القوقعة التي يرى علم الطب أنها من الأفضل أن تجرى في عمر صغير، ولكن لم يكن أمامي أي خيار آخر.
وبعد العملية؟
كنت أظن أن عملية زراعة القوقعة ستمكنني من سماع نغمات الحياة وهمساتها، ولكن كانت توقعاتي أكبر من الواقع بكثير، فقد عانيت من آلام شديدة لم اشعر بها قط، وأذكر أنه حين تم تشغيل الجهاز لأول مرة صرخت واخبرت الأطباء انني لا اريده وألقيت به على الأرض، وظن البعض أنني قد بالغت في رد فعلي إلى أن سمعوا نفس الشكوى من آخرين، وخاصة أن عصب السمع عندي عالي الحساسية للأصوات المرتفعة، لذلك لم أكن أستخدم الجهاز إلا قليلا وبسبب مشاكله فضلت العيش في عالم الصمت، ومازلت احتفظ بسماعتي القديمة إلى الآن والتي اعتبرها رفيقة دربي، ولن أفرط فيها مطلقا حتى إن خانتني هي وتخلت عني.
وسيلة تواصلك مع الآخرين؟
لقد أكملت المرحلة الثانوية وأنا معتمدة على سماعة في أذن واحدة فقط تلتقط بعض الأصوات التي لا تثمن ولا تغني من جوع، لتظل قراءة الشفاه هي الملجأ والملاذ بالنسبة لي، والتي عكفت على اتقانها والاعتماد عليها في التواصل مع الآخرين، وكان لزاما علي تقبل وضعي الجديد الذي أصبح أكثر صعوبة وفي الصف الثالث الثانوي أعلنت رغبتي في الالتحاق بكلية طب الفم والأسنان واعتبر والدي أن ذلك مجرد كلام، وسعيت بكل قوة وإصرار على تحقيق هذا الهدف.
ماذا تطلب تحقيق هذا الهدف؟
كل ما تطلبه تحقيق هدفي هذا هو قدر من العزيمة على مواصلة كسر حاجز المستحيل بداخلي، وقد قلت لنفسي إن قدرك وحلمك بيدك أنت فقط، وبالفعل حصلت على مجموع 94% في الثانوية العامة، وكان أعلى معدل حققه أي طالب من فاقدي حاسة السمع منذ الولادة، وتم تكريمي من قبل الراحل الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة، وقررت الالتحاق بكلية الطب رغم محاولات إحباطي من قبل الكثيرين وتأكيدهم أنها تفوق قدراتي، الأمر الذي زادني إصرارا، وركزت على تحويل نقطة ضعفي إلى مصدر قوة، وتم قبولي من قبل رئيس جامعة المستقبل د. عباد سرحان، ولن أنسى جملته حين قال لي «أمثالك خلق النجاح لهم».
حدثينا عن مرحلة الجامعة؟
لم أعانِ في مرحلة الجامعة من أي صعوبة أكاديمية تذكر، فكل عقبة كان لها حل، فيما عدا ما يخص العلاقات الاجتماعية التي جعلت تلك السنوات الأسوأ والأقسى على الاطلاق، فقد واجهت حروبا ونفورا واشمئزازا من الكثيرين الذين استكثروا عليّ حقي بان أكون طبيبة، ولكني واصلت بكل إصرار وصلابة حتى أصبحت ممتنة لتلك المرحلة في حياتي.
أجمل اللحظات؟
بعد التخرج شعرت بالسعادة لتحرري من تلك المرحلة القاسية، وعقب ذلك بأربع سنوات وجدت نفسي أكرم أمام العالم في مؤتمر الإسماعيلية من قبل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، فبكيت وقتها وأدركت معنى مقولة قد يكون حلمك نجمة والله يريد لك القمر، وكانت من أجمل لحظات حياتي، ثم حصلت على درجة الماجستير في انجاز فريد واجهت خلاله صعوبات بالغة.
ما أشد الصعوبات التي واجهتك؟
تكمن صعوبة تجربة دراسة الماجستير في أنها تزامنت مع اندلاع جائحة كورونا، وعلى الرغم من العثرات التي واجهتها، فإنها أشعرتني بالكثير من المتعة حيث حظيت بزملاء رائعين، وأذكر أنني فكرت في التوقف في نصف الطريق ولكن كلما كانت تقذفني الحياة بالحجارة أجمعها وأبني بها سلما نحو النجاح، ومن المفارقات العجيبة أنني حين وقفت على المسرح لمناقشة رسالتي كان ذلك بتاريخ 2 أكتوبر، وهو نفس اليوم الذي أخبروني فيه قبل 29 عاما بأنني لن أسمع أو أتحدث.
إنجازات تفخرين بها؟
لقد قررت خوض انتخابات نقابة أطباء الاسنان وأصبحت أول شخص من ذوي الهمم يقدم على هذه الخطوة، ونجحت وتقلدت منصب الأمين العام، كما كنت أول متحدثة رسمية بتاريخ الأمم المتحدة فاقدة لحاسة السمع وفتاة تحتل غلاف مجلة سيدتي من خارج الوسط الفني، إضافة إلى إصدار كتاب عرضت فيه مجموعة قصصية صغيرة تتمحور حول قيمة الإنسانية التي فقدناها كثيرا في هذا الزمن، وتم نشره في معرض القاهرة الدولي للكتاب، هذا فضلا عن افتتاح عيادتي الخاصة وهي من الإنجازات المهمة في مشواري.
رسالة لذوي الهمم؟
في حوار أجريته عبر قناة «بي بي سي» وجهت رسالة مهمة إلى أي شخص من ذوي الاحتياجات الخاصة، مفادها «كن طموحا لتشعر أنك على قيد الحياة»، وبالفعل تلك هي قناعتي التي جعلتني اليوم أرفض لقب صماء وأرى أن اختلافنا نحن البشر يزيدنا كمالا وجمالا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك